أعظم شيء فعلته محكمة (نورمبرغ) عام 1945 م أنها اعتبرت الحرب ، أي حرب ، جريمة من الناحية (القانونية). ولكن أمريكا تخوض الحرب الآن بما يعكس عسرة تطور العقل الإنساني. والحرب من الناحية البيولوجية ضد قانون الحياة فبدلاً من أن يدفن الأبناء آباءهم يحصل العكس. والحرب مرض ينبت من تربة الكراهية كما يقول (سكينر) من مدرسة علم النفس السلوكي وأنها تنبت في الرؤوس قبل أن تمارس بالفؤوس. وهي استسلام للدماغ السفلي حيث تعصف الانفعالات ويتعطل المخ العلوي عن ضبط مسار الأحداث. ولعل أهم ميزة لكنيدي في تجنب الحرب النووية عام 1962م أنه وضع أمامه ليس ماذا نتصرف بل كيف نحل المشكلة؟ والحرب هي ذروة العنف لأن فيها القضاء على الإنسان كليةً وتصفيته جسديا. والحرب لا تحل مشاكل بل تخلق مشاكل لأن العنف يستجر العنف والدم يفجر الدم. وكما يرى غاندي في اللاعنف أنه يمتاز بالمحافظة على الطرفين من خلال تفاعل الإرادتين ولكن الحرب هي هرس طرف مقابل نهوض طرف. ومع ذلك فالبشر خلال التاريخ المعروف كانوا يشعلون الحروب بمعدل 13 سنة مقابل سنة واحدة للسلام. وحسب إحصائيات معهد غاستون بوتول فإنه خلال مائتي سنة حصل أكثر من 360 نزاعاً مسلحاً مات فيه أكثر من ثمانين مليون إنسان وفي حرب برلين لوحدها مات ثلاثة ملايين إنسان وفي الجبهة الروسية في الحرب الثانية مات أكثر من عشرين مليون إنسان. فهذا الإنسان القاتل الناطق أمره عجيب. والحاصل فحيثما نظر الإنسان للمسألة يتعجب من اندلاع الحرب فهل هناك مفتاح لها يوحي بالأمل في الإنسان؟ في الواقع الحرب هي إفلاس أخلاقي مهما كان مبررها. وحينما اعترضت الملائكة على خلق الإنسان لم تسأل أتجعل فيها من يكفر فيها؟ بل سألت أتجعل فيها من يسفك الدماء؟ ويبدو أن الحرب تحدث بسبب معقد انثروبولوجي اجتماعي نفسي. فالدولة بناها الإنسان من أجل أمن الأفراد داخلها ومع ولادة الدولة ولدت الحضارة التي نتمتع بثمراتها. مقابل احتكار الدولة لآلة العنف. وهذا لم يحصل في مستوى مربعات الدول. والجنس البشري اليوم في طريقه لتكوين الدولة العالمية التي ستحقق أمن الدول فيما بينها كما فعلت الدولة بالأفراد داخلها. مقابل احتكار العنف بمؤسسات محدودة جيدة التسلح سريعة القفز لبؤر التوتر. ومشكلة الديكتاتوريات ستزول مع هذه العتبة من التطور. ولكن علينا أن نعاني كأفراد طويلاً من مرضها. ولعل نموذج الوحدة الأوروبية هو الذي سيسود لأنها بنيت على العدل وليس التوسع الإمبراطوري. واليوم مع كل مراجعة للحرب يحزن العقلاء. ولكن الطب كان يعالج يوما السعال الديكي بلبن الحمير. وكان العسل يؤخذ بعد قتل النحل. والطفل يخلف قاذوراته ولا يستطيع تنظيفها بنفسه. فهذا تطور وقدر لا فكاك منه. والجنس البشري اليوم يحل المعضلات السياسية بالحرب. ليس لأن المشكلة غير قابلة للحل ولكن لعجز الطب السياسي. فمازال عند مرحلة معالجة السعال الديكي بلبن الحمير.