ما إن يهل هلال رمضان حتى يكون أدباء ذمار وعلماؤها قد أعدوا العدة لإحياء ليالي الشهر الفضيل على طريقتهم الخاصة التي تعودوا عليها منذ ما يربو على ثماني سنوات مضت، حيث يتقاطرون بعد تناول طعام العشاء متأبطين بعضاً من منتقياتهم الفكرية والأدبية والدينية إلى ديوان مدير أمن المحافظة العميد نجم الدين هراش الذي تحول “أي الديوان” إلى مايشبه صالوناً أدبياً مصغراً يمارس نشاطه التثقيفي على مدار العام لكنه في هذه الأيام المباركة يرتدي أزهى حلله وتتوهج عطاءاته التنويرية لتشمل أغراضاً أدبية وزوايا دينية أكثر زحماً وثراءً فمن قصيدة الشاعر وسيرته الذاتية إلى كشف أستار اللغة ومفاتنها الساحرة فالتاريخ وما يزخر به من أخبار الأمم ورجالاته الذين سادوا ثم بادوا لتتزاحم الأفكار والتساؤلات حول قضايا دينية يفرضها واقع الحال ويتصدى لها القاضي العلامة العنسي وزميله القاضي داديه ليرسمان بسعته إطلاعهما على العيون المصوبة نحوها أكاليل من وهج المعرفة وألق الوسطية والاعتدال للدين الإسلامي وأحكامه وفرائضه. ولا يغفل هذا المقام الرائع أن يستلهم بين أطيافه المتنوعة النكتة الذمارية المترعة بالسخرية اللاذعة الممزوجة بذكاء حاد وفطنة نادرة لكل مايدور حولنا.. إنها لحظات عامرة بالإيمان المتوخية صقل النفوس وجلي العقول وتحريك المشاعر والأحاسيس. وإذا ما استل القارىء نباهته التي لاتخطئ مرماها لخلص إلى نتيجة مفادها: تميز هذا القداس الأدبي والجميل عما سواه ليس في المجلس كظاهرة أدبية فهناك الكثير من الأشباه والنظائر في طول البلاد وعرضها لكن التمايز يكمن في أن سائس هذا القداس وعرّاب هذه الطقوس والزاد المعرفي رجل ينتمي للمؤسسة العسكرية والأمنية التي لم تعتد الأوساط الثقافية منها سوى الضبط والربط والأمر والنهي وهو انعطاف نوعي مكن العميد نجم الدين في الوقت ذاته بشغفه المطلق للأدب والأدباء والعلم والعلماء من كسر عقدة الشهيد أبي الأحرار محمد محمود الزبيري التي جنى بها على العسكري حيث وصفه بالبلادة وعشق الأذى وارتباطه الوثيق بكل ماهو شيطاني فقال: العسكري بليد للأذى فطن كأن إبليس للطغيان رباه فجاء هذا العسكري المتألق ليقلب الموازين ويزيل المفاهيم التي ترسخت في الأذهان عن العسكري وتصرفاته التي تتقاطع مع الذوق الإنساني والشعور العام وليؤكد بأنامله الذهبية وصفاء عقله ونقاء نفسه أن ظروف العسكري في ذلك العهد غيرها في وقتنا الحاضر وأن مثله مثل غيره من أبناء جلدته يمكن أن يكون شاعراً أو كاتباً أو صحفياً أو عالماً في أي مجال من المجالات الإنسانية والعلمية والمختلفة إذا ما هُيئت له المناخات الملائمة في مجاهيل هذه الفنون ومغامراتها وإبداعاتها غير أن مايؤسف له أنه وقبل أيام قلائل فصلتنا عن حلول شهر رمضان 2010م صدر قرار وزير الداخلية قضى بتغيير هذا النجم المتوقد وتعيين البديل وهو قرار طبيعي ولا غبار عليه غير أن تداعياته بإطفاء شمعة الأدب التي طالما استهوت محبي المعرفة أشعتها المتراقصة على إيقاع ذلك الموكب الرمضاني المنعم بالإمتاع الروحي والفكري الذي كانت تمتد أوقاته المسائية إلى ساعات الفجر الأولى وكرد فعل على جميل صنعه هذا النجم وما خلفه من مآثر طيبة الذكر توافد المئات بل الآلاف إلى المدينة الرياضية بذمار الذين اكتظت بهم أرجاء الصالة المغلقة لإقامة حفل توديعي مهيب يليق بمكانة هذا الرجل الأمني الذي أجاد حبك خيوطها الذهبية في القلوب وسقاها من عبق روحه الزكية وإنسانيته السامية حتى اهتزت وربت، وما إن استرجعت هذه الجموع الغفيرة الذكريات الجميلة التي صاغتها بإحكام مواقفه وتصرفاته المسئولة المتوازنة ولأن وقع الفراق له ماله من الأوجاع والمرارة والقساوة عبرت عنها أعمال الأدباء والمفكرين على اختلاف مذاهبهم ونزعاتهم، وما إن استرجعت الذكريات حتى انسابت الدموع وفرت من محاجرها لحظة رحيل هذا النجم الاستثنائي في مشهد نادر حمل في طياته رسالة خالدة أطلقها الحضور مفادها” نريد مسئولاً على شاكلة نجمنا الساطع شغوفاً بالثقافة مولعاً بمجالسه أهل العلم والأدب”.