منذ زمن طويل يراودني هذا السؤال ما هو الإعجاز في القرآن الكريم ؟! سيُقال هو الإعجاز البياني من لغة وفصاحة .. أقول هذا لن تجد صداه إلا عند المتبحرين في علوم اللغة الذين يدركون الفرق بين دلالة الاسم والفعل و...إلخ وغيرها من أساليب العربية، وهذا ليس متاحاً للناس كلهم.. لكن الناس كلهم متأثرون ويؤكدون على إعجاز القرآن ، فأين يكمن الإعجاز؟ لو قلت الإعجاز العلمي والعددي وغيرها من نواحي الإعجاز الجديدة لانسحب الكلام السابق على هذه الأوجه من الإعجاز أيضاً.. إذن الإعجاز موجود لكن لم نمسك بناصيته! الجميع من متخصص وعامي متفق على إعجاز القرآن وقد يتفوق المتخصص على العامي في إدراك هذا الإعجاز واستخراج مكامنه بسبب امتلاكه لأدوات البحث عن نواحي هذا الإعجاز، لكن حظ العامي موجود في كل الأحوال، فما هو إعجاز القران؟ نجد أن إعجاز القرآن يكمن في صوت ألفاظه، فالألفاظ القرآنية التي يسمعها متلقي القرآن - أياً كان- يلاحظون جميعاً أثرها على أنفسهم، ففي اتساق هذه الألفاظ ونظمها وتناغم موسيقاها يكمن إعجاز القرآن المؤثر عليهم، فالقرآن صوت تم تناقله شفهياً من لسان إلى لسان ولم تكن قصة كتابته في أوائل الخلافة الراشدة إلا حفظاً من الضياع وأضاف خط المصحف إعجازاً، فالرسم العثماني الذي اختير لكتابة القرآن يجعل القارىء لا يعتمد على قدرته على القراءة في تعلم القرآن بل يحتاج معلماً؛ لأن وضعية كتابة الألفاظ لا توافق قواعد إملاء العربية المتعارف عليها في كتابة بعض الألفاظ فنجد مثلاً كلمة رحمة مرة هكذا كما كتبناها بالتاء المربوطة ومرة أخرى رحمت بالتاء المفتوحة وكلمة الرحمن هكذا بلا ألف وغيرها من الألفاظ. فالمناط من كتابة هذه الألفاظ هكذا أن يستمر تناقل القرآن مشافهة حتى تظل سلسلة حفظه متصلة غير منفصلة ولو حلقة واحدة من عند جبريل عليه السلام حتى قارىء اليوم . فنبينا محمد (صلى الله عليه وسلم) تلقى القرآن صوتاً غير مكتوب؛ لأنه عليه السلام كان أمياً، ثم نقل هذا الصوت إلى أصحابه بشكل شفهي أيضاً ثم نقله الأصحاب إلى كافة الأمصار صوتاً مشافهة غير مكتوب - قبل تدوينه – فهكذا تتم السلسلة، أما بعد تدوين القرآن بالرسم العثماني خصيصاً جعل النقل الكتابي لا يعتمد عليه فقط دون معلم لأننا لو كان مصدر قراءتنا للقرآن هو المكتوب فقط فلماذا نقرأ أوائل سورة البقرة (الم ) بالمد هكذا (ألف لام ميم) بينما نفس الكتابة في أوائل سورة الشرح ( ألم نشرح لك صدرك) ألم هكذا بدون تقطيع ومد، وهما مكتوبتان بنفس الطريقة؟ فما المبرر ؟ لن تكون الكتابة هي المبرر فالكتابة واحدة في الحالتين لكن القارىء سيقول سمعتها من معلمي هكذا ومعلمه سمعها من معلمه هكذا، وتستمر السلسلة في الصعود حتى يقول الصحابة: سمعنا من النبي هكذا والنبي سمعه من جبريل هكذا..إذن القراءة صوتية وليست على حسب قواعد الخط. فكانت كتابة القرآن بهذا الشكل هي الأداة التي حفظت صوت القرآن على هذه الدقة منذ بدء الوحي حتى يومنا هذا. أما لماذا لا نعيد كتابة القرآن وفق قواعد الكتابة المعاصرة? أقول مستحضراً فتوى فقهائنا السابقين واللاحقين بعدم جواز كتابة القرآن بغير الرسم العثماني؛ لأنها جزء من إعجاز القرآن، وأضيف إلى ذلك هو التناقض الذي سنقع فيه لو فعلنا ذلك ؟! سنسأل ما هو مرجعنا في الكتابة ؟ لاشك أنه صوت اللفظ ..حسناً.. كيف سنكتب الأحرف المقطعة؟ بالصوت سيصبح أول البقرة ( ألف لام ميم ) وأول سورة الشرح (ألم) ؟ وستكون كل كلمة رحمة في القرآن إما رحمة بالتاء المربوطة أو رحمت بالتاء المفتوحة، وماذا سنختار في هذه الحالة رحمة أم رحمت؟ وما دليلنا على هذا الاختيار ؟! وكثيراً من الآيات سنجدها تغيرّت عمّا تعودنا عليها وليس هذا فحسب بل سنلغي القراءات لأن أكثر اختلافات القراءات هو في اختلاف كتابة اللفظ وأمور أخرى سنحذفها لنحافظ على قواعد الخط. و سنستغني عن كل تدريس شفوي للقرآن لأن الخط سيكون هو الفيصل، وبذلك سنكسر سلسلة الحفظ المتواصلة من لدن جبريل عليه السلام حتى قارىء اليوم. كل هذا من أجل مجارات قواعد الكتابة اليوم! لماذا لا يكون الرسم العثماني خصوصية للقرآن الكريم على أي كتاب آخر مكتوب بلغة العرب؟