القرآن الكريم كلام الله المعجز الذي أنزله على رسوله الكريم في أمة فصيحة، فهو بذلك البيان يكون حجة الرسول على أعدائه من العرب في الفصاحة والبلاغة لأن التحدي من جنس التفوق، وهذا هو دأب الرسالات دوماً.. ومن إعجاز القرآن قدرته الفائقة على توظيف الألفاظ بما يناسب حال الكلام ووقف البيان بحيث يجلو المعنى عن موقف أو حادثة ويشحن اللفظة بكثافة الدلالة، ومن ذلك توظيفه الجميل للجملة الاسمية والفعلية في مواضعها دون أي زلل في ذلك..فمعلوم أن الاسم يدل على الثبوت والاستقرار والفعل يدل على التجدد والحدوث، وهذا ما نلحظه في الآيات التي نطقت بذلك يقول الله سبحانه وتعالى: ( وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (الأنفال : 33) انظر إلى اللفظتين ليعذبهم ومعذبهم، الأولى جاءت فعلية والأخرى اسمية، فإذا كان نفي العذاب الأول عنهم متعلقاً بوجود الرسول (صلى الله عليه وسلم) بين ظهرانيه (وهو وجود غير دائم بدليل قوله تعالى: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ) (الزمر : 30) جاء بالجملة الفعلية ( ليعذبهم) ولما كان الاستغفار وهو سبب نفي الثاني وهو مستمر دائم، لذا جاء بالجملة الاسمية ، وانظر معي إلى قصة أصحاب الكهف في حالتين وهم في الكهف وبعد يقظتهم ودعونا نأتي بالآيات أولاً قال تعالى: (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً(الكهف : -17 19 ) نرى من الآيات أن الفتية كانوا في سكون تام داخل الكهف لذا جاءت الآيات بالجمل الاسمية (هُمْ فِي فَجْوَةٍ) و(هُمْ رُقُودٌ) و(كَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) أما الظواهر الطبيعية فظلت على حالها متحركة (طَلَعَت/ تَّزَاوَرُ/ تَّقْرِضُهُمْ) حتى إذا استيقظوا ودبت فيه الحركة ثانية (لا أقول الحياة لأنهم لم يموتوا ) جاءت الجمل الفعلية في حقهم (لِيَتَسَاءلُوا / قَالَ قَائِلٌ / لَبِثْنَا / فَابْعَثُوا / فَلْيَنظُرْ / فَلْيَأْتِكُم / لْيَتَلَطَّفْ...إلخ).. ويفيد معرفة الفرق بين الفعل والاسم للرد حول شبهة التكرار الحاصلة في سورة الكافرون قال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (الكافرون : 6-1) نلاحظ أن الله نفى عن رسوله عبادته لما يعبد الكافرون بطريقتين الجملة الاسمية والفعلية وفي كلا التعبيرين نفي قاطع أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يعبد عبادتهم لا الآن ولا مستقبلاً، أما الكافرون فنفى عبادتهم لعبادة الرسول(صلى الله عليه وسلم) بالجملة الاسمية لأنه لما خاطبهم بالصورة الاسمية قائلاً: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) نفى عنهم العبادة الحقة بالصورة الاسمية أيضاً فقال تعالى: (وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ ) فإنهم لما اتصفوا بكفرهم على وجه الثبات نفى عنهم عبادة الله على وجه الثبات.