ليسوا محتاجين أولئك الذين يجوبون المدن والأحياء والشوارع يسألون الناس إلحافاً.. امتهنوا التسوّل وأراقوا ماء وجوههم في استدرار عطف الناس بكل أساليب الإلحاح وفنون الاستجداء . المحتاجون أناس كثير يقاسون مرارة الجوع والمرض .. يصومون (عطوف) ويفطرون على القليل من الطعام .. يصومون مع أنات المرض ونوبات الألم، وتعوزهم الحاجة لأن يجدوا بضع كبسولات تخفف عنهم مما هم فيه, لكن كرامتهم وعفتهم تأبى لهم أن يمدوا أيديهم للناس بل ويأنفون عن الشكوى والتذمر راضين بقسمة الله لهم لأنهم يدركون أن في ما اختاره الله الخير كله. هؤلاء الناس إذا ما اقتربت منهم لاتدرك أنك تقف أمام أناس محتاجين .. لأنك ترى في وجوههم البشاشة والرضا ووهج الغنى. حدثني أحدهم عن جار له فقير وله كثير من الأولاد , وفوق ذلك أصيبت زوجته بمرض عضال ألزمها الفراش .. يقول من حدثني : مضت أيام وشهور ونحن لانعرف عن أمر المرض شيئاً .. بل إن حياة المدنيّة ومافيها من قسوة وجلافة – انتزعتها المدينة من بادية الأمس – حالت بيننا وبين أن نعرف عن أمر هذا الجار شيئاً سوى أننا نراه يمر يومياً بمظهر حسن وطلعة جميلة تشعرك بغنى الرجل أو تقاضيه لراتب كبير، وربما أننا قد سألناه في مرة من المرات عن حاله , فيردّ : (الحمد لله .. عايشين بفضل الله) . ويقول: مضت أيام حتى اكتشفنا من أحد أطفاله - «وما يفضحوا الواحد إلا الأطفال» كما يقال - اكتشفنا أن أمه مريضة وأن أباه يعمل براتب خمسة عشرين ألف ريال لاغير، يصرف بعضها على علاج أمه, وينفق الباقي على إطعامهم مستديناً من أخيه ليغطي نفقة الشهر.. لكن حين بادرنا باستفسار الأب وجدناه مرتبكاً ومظهراً أن أموره بخير والحمد لله. هذا نموذج واحد من نماذج كثيرة وأسر متعففة عن استجداء الناس وهم في أمسّ الحاجة.. وهؤلاء هم الأحق بأن يطرق الناس أبوابهم لإعانتهم ومساعدتهم وإدخال الفرحة والسرور بين أطفالهم. هؤلاء هم أحق بأن تتجه أنظار التجار ورؤوس الأموال إليهم لاسيما في هذا الشهر الكريم شهر الخير والبركات والصدقات وتحسس مواجع الناس وآلامهم.. والجار ينبغي أن يكون أعرف بجاره.. ولا يدخل الجنة من بات شبعان وجاره جائع – كما في الحديث – والمجتمع لايكون مجتمعاً إلا بتراحمه وتعاطفه وتحاننه على بعضه البعض. أما مظاهر الاحتشاد لكثير من المتسولين سيراً وراء موزعي الصدقات فإنه لاينبئ إلا عن خلل يسري في بنية المجتمع المسلم, لأن الصدقات في هذه الحال يصبح مجالها التشهير , وتصبح أيضاً من نصيب أناس ليسوا مستحقين لها, وإن كان ذلك فإن هناك من هو أحق منهم وهم أولئك الذين تسري في بيوتهم رائحة الغنى وهم في أقصى درجات الجوع والمرض فهل أحسسنا بهم؟!.