ذكر الشيخ السباعي رحمه الله تعالى أنه يعرف أبًا كان ذا نِعْمة ومال وفِيرٍ، وقد عود أولاده الطعام الطيب، واللِّباس الفاخر، ثم قَدَّر الله تعالى عليه الفقر، فأعسر بعد اليسر، فجاء رمضان وهو لا يجد ما يُنْفِق؛ كما كان يُنْفِق من قبل، وله من مكانته وحيائِه ما يمنعه أن يسألَ الناس صدقة أو دَيْنًا، فلم يكن يستطيع أن يقدمَ لعائلته ما تفطر عليه إلا الجبن والزيتون والفول، واحتمل أبناؤه ذلك أول يوم، وثانيه، حتى قال صغيرُهم في اليوم الثالث: “يا أبتِ، لقد أحرق بُطونَنا الجبنُ والزيتونُ، ونحن صيام نحتاج إلى ما يبل الأُوَام، ويُرطب الجوف في هذا الحر الشديد، ويكاد يغمى علينا من روائح الطعام عند جيراننا، فلماذا لا تطعمنا كما يطعم جارُنا أولادَه؛ وكما كنت تُطْعِمُنا من قبلُ؟ وطفرت دمعة من عين الصبي. خرج الأب بعدها إلى جانب مظلم من الدار ثم بكى؛ لأنه لا يريد أن تتفتح قلوب أبنائه أول ما تتفتح في الحياة على غدر المجتَمع؛ وقسوة الناس الذين لم يرحموا فيه عُسْرَه، وتحولَه من الغنى إلى الفقر. إنَّ رمضان شهر المُواساة؛ فالشبعان من المسلمينَ يصوم ويجوع؛ ليُواسي إخوانه الجَوْعَى، ويُقَاسِمهم طعامه؛ ولربما لو لم يَصُمْ ولم يصبه الجوع ما تذكرهم. وصاحب الثراء يصوم كذلك؛ ليتذكر حال إخوانه الفقراء والمُحْتاجِينَ؛ فيَدْفَع لهم زكاته، ويتصدق عليهم من فضول أمواله. وكم في الناس من أثرياء كانوا من قبل فُقَراء مُعْدمِينَ قد ذَاقوا قرص الجوع، وأَلَم الحِرْمان، أنعم الله عليهم بالخير الوفير، فأصابهم الثراء بعد الفقر، فأسرفوا في رزق الله تعالى لهم، ولم يُؤَدُّوا حقه عليهم، ونَسُوا أن لهم إخوانًا ما زالوا يذُوقُون قرص الجوع الذي ذاقوه هم من قبلُ، ويُعالِجُون الفقر الذي أصابهم فيما مَضَى، فإذا ما صَامُوا وجاعوا تذكروا ماضيهم البَئِيس، وما أنعم الله عليهم به من الغنى والخير، فشكروا الله تعالى على ذلك، وتابوا من سرفهم، وواسَوا إخوانهم المحْرُومِينَ.