لا شيء يشبهُ تلك الغوغاء التي يصدرها فكرٌ مفعمٌ بالحيوية، يشبه الأمر تلك العاطفة التي تنضحُ بها قلوبُ بعض البشر. وقديماً قالوا ((كلُّ إناءٍ بما فيه ينضح)) هذه العقول وتلك القلوب أوانٍ تنضجُ بما فيها ولكن لماذا تخزنُ عقولنا وقلوبنا الشر والخير وهل يوجد آلية معينة للغربلة بحيث لا يبقى فينا إلا الخير.. في أجساد البشر قوة مغناطيسية جاذبة تستقطب الخير والشر معاً ولكن بمقابل ذلك يوجد هناك فلتر يستطيع قياس بطائننا والإبقاء على طيبها وإقصاء خبيثها. الطبيعة البشرية مجبولة على الاتباع , يجب أن يكون هناك إله واحد نتّبعه..خط واحد مستقيم نسيرُ عليه..وجهة معينة نريد الوصول إليها.. لا يستطيع الإنسان أن يكون خيراً محضاً أو شراً محضا..هو خليط من كليهما...لكن فلتر الضمير يستطيع أن يضع للشر حدوداً، إلا إذا افسد الإنسان عمل الضمير بيديه وهذا يمكن عندما يتعاطى الإنسان جرعات لا أخلاقية عالية سواء مادية أو معنوية. ومنذُ الصغر يحصل الإنسان على هذه الجرعة يوماً بعد يوم لتشكل شخصيته الطيبة أو الشريرة بشكل متناغم مع حالة الوسط الذي عاش فيه. القوة الجاذبة للسلوك والتي يتميز بها الإنسان عن سواه من المخلوقات هي الكتاب الذي لا يمكن تمزيق أوراقه أبداً لأنها تنطق وترى وتسمع , لها عينان تبصران ويدان تبطشان وقدمان تسيران..إنهُ كتاب من لحم ودم.موضوع في أعلى منطقة من جسد الإنسان..إنهُ عقله الذي من دونه يصبح الإنسان حيواناً .. حضارات بشرية كثيرة قامت ثم اندثرت كان عقل الإنسان سبباً في حضورها وتميزها , وساعد على بقائها تدوينهُ لتلك الحضارات وهو شاهدٌ على تاريخه القديم. اليوم تتنوع وسائل الاتصال والتواصل بين الشعوب ..فأصبحت أكثر سرعة ودقة ولكنها أشد خطراً على صحته.العالم اليوم أصبح رقعة جغرافية واحدة مترامية لكن دافئة.. بعُض وسائل الاتصال التي وفرت جهداً بشرياً عالياً تزرعُ الشر داخل أبنائنا كما تزُرعُ بذور السنابل في باطن الأرض لا تلبثُ أن تؤتي حصادها ولو بعد حين.. هذه الجريمة البشعة التي أصبحت تشبه جرائم المافيا..وهذه العلاقات المقيتة التي تهدد مستقبل أبنائنا وبناتنا وتلك الحبوب المخدرة والتعصب غير المسئول والسلاح الذي أصبح لسان الشباب ؛ كل ذلك نتاجٌ لوسائل اتصال حديثة استخدمناها بطريقة خاطئة ووظفناها كأدوات ناطقة بدلاً من أن نوظف عقولنا وإرادتنا ورغبتنا في التغير نحو الأفضل. ومن هنا تأتي هذه الانتكاسات المرضية والمجتمعية فنعيش منفصلين اجتماعياً بالرغم من وجودنا على عقد التوافق الاجتماعي كأفراد عقلانيين نعيش ضمن مجموعات إنسانية قادرة على تقييم أدائها وتحسين إنتاجها في سبيل الوصول إلى درجة معيشية جيدة . هذا الانفصال أدى إلى وجود طبقية فكرية قائمة على تفاوت ثقافي ومنطقي معين بالرغم من كونه يعيش ضمن نمط اجتماعي موحد الحضارة التي لونت حياتنا بالفضول والمعرفة لم توجه ذلك الفضول والمعرفة توجيهاً صحيحاً لأنها كانت حضارة ترفيهية بحتة بعيدة تماماً عن العلم الحقيقي الذي يشبع فضول الإنسان ونهمه ويُثري معارفه. من هنا أصبح من الضروري على الآباء والأمهات تدشين مرحلة قيادية جديدة مبنية على المشاركة الفاعلة في مختلف الأنشطة وعبر مختلف القنوات لأجل إحداث الغربلة الثقافية وعدم رفع راية الاستسلام الحضاري التي جعلت من مجتمعاتنا العربية والإسلامية مجتمعات تابعة بعد أن كانت مجتمعات متبوعة.. كما تقتلُ الرصاصة حبيباً فإنها تفعل الفعل نفسه مع عدو لدود لم يكن ليستحق شيئاً غير الموت.. والسكين التي تذبح البشر كالنعاج بلا ذنبٍ يذكر هي ذاتها السكين التي تقطعُ لتصنع الطعام الذي يشبع جوفي وجوفك..كل شيء في الحياة يمكن أن يستخدم للخير كما يستخدم للشر ..كل شيء في الحياة يمكن أن تكون له رسالة سامية مهدفة أو خطة جهنمية قاتلة , فلماذا إذاً استخدمنا التكنولوجيا للإساءة لنفسنا وللآخرين.. لماذا لم نستخدمها لإحداث ثورة علمية وأدبية وثقافية تظهرنا أمام الشعوب الأخرى بمظهر أكثر لياقةً واحتراماً من نظرة الدونية التي نعاني آثارها في طفرات عابثة بدءاً بإهدار دماء المسلمين كحشرات على زجاج النوافذ.. ثم العبث بسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم والتهكم به وأخيراً محاولة رخيصة لحرق القرآن الكريم منهج حياتنا القويم.. نعم وبينما نحن مشغولون بفستان الفنانة فلانة وفورمة شعر الفنان علان ..وفوازير إجاباتها معروفة مسبقاً على لسان المذيعة التي تقفزُ بلا أسباب واضحة فقط ليهتز منها كل ماهو ساكن.. ورسائل ساخنة عبر هواتفنا النقالة تحاول العبث بمشاعر هذا الجيل والعبث بمبادئه وقيمه.. وعاريات على صفحات النت يبحثن عن رجال عارين.. كل هذا كافٍ جداً لقيام الغرب بتصويب سهام الاحتلال الفكري والانحلال الأخلاقي بل واتهام من يحاول التمسك بمبادئه وقيمه بالرجعية والتخلف والوصول حد الإرهاب..بالرغم من أن الإرهاب سلعة مستوردة ولم تصدرها المجتمعات العربية إلا كاحتجاجات بيضاء تحاول عبرها توضيح هذا المفهوم المهجن الذي عبث بمعناه كثيرون رغبةً منهم في إحداث حالة تشبع قصوى بمعناه اللغوي دون إدراك لمن يستخدمه بإتقان ليل نهار. للخير آلات كما للشر آلات ولكليهما جيوش وعدة وعتاد , لكن المشكلة لا تكمن في هذه الروزنامة من المفاهيم والمعاني والشعارات..المشكلة أننا لا نتقن استخدام كلٍ منها في مكانه وزمانه المناسبين له، بل إننا أصبحنا نخلط بالفعل بين الخير كقيمة إنسانية واسعة والشر كمفهوم بشري ضيق لا يخدم إلا الشيطان . الغريب أن هذه التكنولوجيا الرهيبة تشبه صانعها تماماً.. فيها خير وشر كما في الإنسان خيرٌ وشر.. فهي من حديد بينما مستخدموها من لحم ودم.. إذاً لا شيء يمكن أن يغربل الشر في نفس الإنسان إلا ذلك الضمير الذي يتميز بحساسيته الشديدة تجاه الخير والشر دون أن يعبث بهذا المخلوق الذي تجاهل ذاتهُ وأخفى إدراكهُ وسار بكامل إرادته خلف هواه. لا تستحق القضية أن تنُشر على صفحات حياتنا.. لكنها أيضاً لا ينبغي أن تسكن قلب المجهول..بعض التوسط وشيء من التوازن يمكن أن يطوّعا هذه السفينة مع اتجاه الريح.