كلما اشتدت الأزمات الغذائية في العالم الثالث لأسباب طبيعية وأخرى تجارية وسياسية, كلما فكرت حكومات عدد من تلك الدول بالعودة إلى الأرض, وحشدت طاقات واهتمامات عامة الشعب لزراعة المزيد من الأراضي, وعدم الانجرار وراء الأخبار المحبطة حول الأوضاع الداخلية كالتي تزخر بها وسائل الإعلام المحلية وخاصة الحزبية والمستقلة الموالية لها ويضاً ما تتناقله وكالات الأنباء و القنوات الفضائية. وقد استغربنا من أخبار بعض البلدان العربية التي تنتج القمح والشعير بملايين الأطنان, ومع ذلك تستورد مليوناً إضافة إلى المليون المنتج من أرضها, وتعزي الارتفاع في كمية الاستيراد إلى عوامل مثل الجفاف وزيادة عدد السكان وشحة المياه وانصراف المزارعين عن الزراعة الباهظة التكاليف, التي لايستطيع معها أصحاب الأراضي فلاحتها بالطرق الحديثة أو بغيرها وعدم تقديم الدعم والمساعدة الحكومية لهم سواء في أثناء المواسم, أو بعد الحصاد, فيتكبدون خسائر لاطاقة لهم بها, ويتحولون إما إلى بطالة وإما إلى الهجرة إلى المدن أو إلى الخارج, أو لزراعة القات, وهو المجال المغري الذي أصبح ملكاً غير متوج يحكم بإرادته التي لاراد لها عندهم. فمليون طن من الحبوب التي قال خبر في الأسبوع الماضي إن أرضنا الطيبة قد أنتجته في الموسم الماضي وهو ربما لايساوي واحداً بالمائة مما نستهلكه في السنة, لأننا أكثر من غيرنا في استهلاك القمح وأنواع الحبوب الأخرى, بالإضافة إلى الأرز المكوّن الثاني لموائدنا مع مايرافق ذلك من إسراف وتبذير حتى في هذه الأيام العصيبة في تاريخ البشرية, ولاسيما في الدول الفقيرة والنامية. ويقول خبراء إن الفجوة ستتسع بين الأغنياء والفقراء على مستوى الدول والأفراد والجماعات داخل الوطن الواحد, وإن ماكانت تعرف بالطبقة الوسطى تكاد تنمحي في اليمن, وهي التي كان يراهن على بقائها في معادلات الفوارق الاجتماعية نظراً للعلاقات والقيم الاجتماعية اليمنية المتكافلة والمتعاونة والمتسامحة, لأن القيم الأصيلة تذوب بسرعة إن لم تكن قد أوشكت على الذوبان نهائياً, ونلمس ذلك في أدنى الحرف والمهن والتعاملات التي يتحوّل فيها من لديه حرفة أو وظيفة أو عمل يدر عليه دخلاً يومياً مناسباً, ويتمثل ذلك في سوء الطباع وفي المبالغة في الأسعار والأجور مقابل إصلاح أو بناء أو صيانة في الأجهزة المنزلية والمركبات وفي البيوت. إننا نشاهد القات يتمدد ويظهر في كل صباح بمناطق لم تكن قد زرعت به في الصباح السابق, وفي أماكن مرتفعة أو منبسطة لم تزرع من قبل إلا بالحبوب والخضروات بأنواعها وبالفواكه, فأصبحت اليوم مقضومة من أطرافها ووسطها ومحروسة بقوة سلاح المزارعين وأعوانهم المكلفين بذلك من شخصيات وجهات متنفذة وضعت نفسها في الصف المعادي للأجيال القادمة, التي قد لاتجد ماتأكل إلا القات, ولاتزرع إلا القات بما في ذلك خريجو الجامعات والمعاهد والمدرسون فيها والمسؤولون أصحاب أبراج المقايل الطويلة العريضة المزينة بأفخر وأغلى الفرش والقطايف, ومايتبعها من حمامات وصالات تبلغ تكاليفها أو تزيد عن تكاليف بناء عدة بيوت متوسطة الحال.. أما مزارع القمح بالتحديد فلا تكاد تُرى إلا متناثرة وصغيرة المساحة وقليلة العدد, فعن أي نجاح في زراعة الحبوب والمحاصيل الغذائية يتحدث المتحدثون في وسائل الإعلام, والواقع هو هذا الذي لانحسد عليه.