كثيرة هي الذكريات الجميلة التي عشتها في طفولتي مع أعياد ثورة 26 سبتمبر وفرحة الناس بها في البيضاء، ومن الذكريات المهمة التي لن أنساها ما حييت ما كنت أشاهده على أبي من حرص على الانعزال في غرفته أياماً لنظم قصيدة العيد، التي يعدّها ملحمة يجمع فيها كل ما يخص المحافظة من القضايا والمشكلات، وكان يعد القصيدة لتكون مساءلة للمسئول عن أي خلل يظهر في المنطقة، ومحاكمة للمتسببين في ذلك الخلل مهما كانت مكانتهم، وكانت قصيدة سبتمبر لوالدي تعد رسالة إلى الشباب والكبار من كل المستويات الجندي والقبيلي والطالب والأستاذ، فكان الجميع يترقب ماذا سيقول والدي في سبتمبر!!. وكان في كل قصائده الوطنية يعرض قضايا الوطن ويحذّر من المساس بالثورة وأهدافها، ويهاجم الفاسدين، ويدعو إلى الوحدة الوطنية وإلى العمل من أجل التنمية، وكان حريصاً على عنونة كل قصائده السبتمبرية بعنوان واحد هو (من وحي العيد الأول، أو الثاني إلخ) ولا يميز عناوين قصائده السبتمبرية سوى رقم العيد فقط. ومن القصائد السبتمبرية التي عشت معها تجربة حزينة ومؤلمة قصيدة بعنوان (من وحي العيد التاسع لثورة 26 سبتمبر 1972) وكانت القصيدة مكونة من (43) بيتاً (1)، نظمها الوالد منتقداً في بعض أبياتها مظاهر الفساد التي بدأت تشوّه جمال العيد في المحافظة. وأتذكر أن مسئول الرقابة السياسية على الحفل حينها طلب من الوالد للمرة الأولى أن يعرض عليه نص القصيدة قبل إلقائها، وعرضها الوالد عليه، فأمره بعدم إلقاء أبياتها المتعلقة بالفساد، فاستنكر والدي المنع، ورد عليه: لماذا لا ألقيها، سوف ألقيها كاملة؛ لأن هذا رأيي، وهذه رسالتي نحو أهداف الثورة. فقال له الرقيب: إذا ظللت مصراً على رأيك فسوف نلغي قصيدتك من البرنامج، وإذا ألقيت الأبيات فسوف تبيت في القلعة (السجن)، وأتذكر رد والدي – رحمه الله - بالحرف: حينما قال مبتسماً: «القلعة يا سيدي مدرسة الزبيري» ودار نقاش ساخن بينهما شعرت من خلاله أن الوالد مهدد، وأمام الضغط وعد أبي بإلقاء القصيدة بعد حذف الأبيات التي تتحدث عن الفساد، وعاد إلى البيت حزيناً وأكثر إصراراً على محاربة الفساد والفاسدين. وفي صباح 26 سبتمبر خرجنا في طريقنا إلى ميدان الحفل، وفي الطريق قال لي والدي: كوني شجاعة إذا أخذوني، عودي إلى البيت واحضري لي بطانية وسلميها للجندي المناوب في بوابة القلعة لإيصالها إليّ، وكانت القلعة مألوفة لدي؛ لأنها مجاورة لبيتنا فلم أستغرب الوضع، وكنت حينها غير قادرة على استيعاب الموضوع برمته، ووافقت على المهمة دون مناقشة، ولم أتنبه لخطورة الأمر إلا عندما بدأنا نعاني نحن صغاره من مضاعفات عدم رضا المسئولين عن والدي. وحان موعد إلقاء القصيدة، واعتلى والدي المنصة وألقى القصيدة كاملة وسط هتاف الجماهير وتصفيقهم، وكان يعيد ترديد الأبيات المرفوضة سياسياً أكثر من مرة بناء على طلب الجماهير، وجلسنا بهدوء إلى أن انتهى الحفل، وغادرنا الميدان راجعين إلى البيت لكننا لم نصل بسلام، فقد اعترضنا بعض الأشخاص الذين أمسكوا بيد الوالد وأمروني بالعودة إلى البيت بمفردي، ولكني رفضت وأخذت في البكاء بصوت عالٍ، مصرة على اصطحاب والدي أو الذهاب معه، وبخاصة حينما وجدت والدي غير مرحب بالسير معهم، ولكن والدي أمرني بالصمت والعودة إلى المنزل وتنفيذ ما أمرني به صباحاًَ. وفعلاً سحبوا والدي أمامي بقسوة لا تتناسب مع مكفوف، وأدخلوه السجن بسبب هذه القصيدة، التي ليس فيها ما يستدعي ذلك الفعل، لكنه حال الوضع الماضي الذي ازدهرت فيه المتاجرة بالمزايدات في فترة كانت الديمقراطية والحرية السياسية فيها محرمة، وكان هذا النوع من الشعر غير مباح، ولم يكن مسموحاً لأحد أن ينتقد الوضع بأي حال من الأحوال. وحتى تكتمل الصورة أعرض على القراء أهم الأبيات التي لم تكن عند مستوى رضا المسئولين على المحافظة حينها لنستعيد بعض مشاهد الكبت السياسي قبل الوحدة، حتى نقدّر نعمة الوحدة اليمنية التي أتاحت حرية التعبير للناس لدرجة امتهان الوطن ومنجزاته التاريخية من قبل بعض المتهورين: فيها بطونا أسرفت في الغذا وأتلفتها النعمة الزائدة أعطوا الجياع الخبز لا تبخلوا فيسلبوكم تلكمُ المائدة واسوا الجياعَ واتقوا فتنةً عمياء في أحشائهم راقدة قد تترك المثري إذا لم يعي جوع الفقير جثةًً هامدة يا آكلين الشعب لا تشتكوا زوراً جمود الحالة الراكدة صنعاء ضجت من أساليبكم والشام(2) والبيضاء والراهدة جيوبكم بالسحت مملوءة وهذه أعمالكم شاهدة أخرتم الثورة بل أقبلت نحو الوراء في سيرها عائدة دُولار أمريكا غدا كعبة خرت له أطماعكم ساجدة أصلُ المآسي كلها محنة جاءت من الدولار يا عابدة وإلى عيد قادم يكون أروع للوطن والمواطن في ظل الوحدة اليمنية ومنجزاتها الوطنية الشامخة. 1. منشورة في ديوان سالم أحمد السبع: السبعيات (أحلامي بين الوطن والثورة والوحدة) من منشورات تريم عاصمة الثقافة الإسلامية، وزارة الثقافة، صنعاء، 2010م. 2. المقصود بالشام تهامة اليمنية.