اكتسب المديح في مجتمعنا صفة سلبية، وأصبح مرادفاً للتملق المجاني والنفاق التكسبي, الذي يهدف صاحبه إلى جني مصلحة أو قطف ثمرة شخصية، ويمسي صاحبه في مرتبة أدنى في هرم السلم الاجتماعي، فيحتقره الناس ويرونه نموذجاً للمتسلق _في أحسن الأحوال – فضلاً عن وضعه في مرمى الإتهام. على أن المجتمع يتلقف تلك المقولات المقولبة والمفاهيم النمطية دون مراجعة أو بحث في مدى دقتها وصوابيتها مستسلماً لما يأتيه جاهزاً وغير مدرك للفواصل الدقيقة بين المديح والاعتراف بالجميل. إن الوجه الآخر لعملة المديح هو الإنصاف, وهي الصفة المرادفة للامتنان للناس ، وشكرهم على جميل عملوه أو خير بشروا به، أو مصلحة مشتركة تسببوا في جلبها، ولذلك يعد المدح حثاً للمدوح؛ لأن يتحلى بهذه الصفات التي مدح بها ودفعه للتخلق بصفات النبل والشهامة، وصولاً للإشادة بالنماذج الرائعة وتسليط الضوء عليها علّ الناس يقتدون بها، بعيداً عن المبالغة وتقديس الأفراد. إن ترسيخ ثقافة الإنصاف وشكر الناس يدفع المجتمع لبذل قصارى جهده من أجل تجويد الأعمال التي يقوم بها الأفراد, ومن شأن ذلك صقل مواهبهم وتعويدهم على الإخلاص والتفاني في المزيد من الإنتاج تحقيقاً للمصلحة المشتركة وتجسيداً لمبدأ التكاتف الاجتماعي, وأن من لا يشكر الناس لا يشكر الله. كما ارتبط مفهوم النقد بإظهار العيب وعد الناس ذلك انتقاصاً من الأفراد دون أن ينتبهوا إلى أن الجهد البشري ينطوي على النقص والتقصير والنسيان, ويأتي أحياناً ممزوجاً بالهوى، فضلاً عن زاوية محددة للرؤية يتناولها المرء دون غيرها من الجوانب. إننا لن نستطيع أن ننمي ثقافة النقد دون أن نؤمن بحرية الأفراد في الإدلاء بآرائهم, ودون ألا نجعل ذلك حكراً على فئة بينما نمارس الوصاية والحجر على آخرين. لقد اعتاد البعض منا أن يقبل كل ما قاله فلان أو علان من الناس, كما لو كان كلامه عين الحقيقة ، وهذا ليس أمراً صحياً بل ضاراً, وبموجبه يتعود الناس على الكسل المعرفي. إن ضعاف النفوس ممن لا بصمة لهم في الواقع يرون أن الإعلاء من شأن فرد نظير صفات اتسم بها كالمثابرة أو التفاني في عمل أنجزه هو تعتيم على شخصه, وأن ارتفاعه بالضرورة هو تخفيض لمقام هذا الشخص, وهذا غير منطقي وخير دليل على أن البعض عود نفسه على التطبيع مع الكراهية، وحجب على نفسه رؤية الحقائق، كما أنه مهووس بفكرة تآمر الآخرين عليه. لذا وجب أن ندرك المسافة الرمادية التي تفصل بين المفاهيم, والتي هي غالباً عرضة لسوء الفهم وللتفسير والتأويل وفي هذه المنطقة الرمادية تنضج الأفكار وتكون المفاضلة بينها نسبياً وليس بالحسم (أبيض أو أسود). على أن الغالبية من الناس قد اعتادت ألا تفكر بل أعفت نفسها من مسؤولية مراجعة المفاهيم والتدقيق في كل ما نتلقاه, وهذا من شأنه الخلط الفكري الذي نتيجته حتماً تداخل المصطلحات وانقلاب المعايير.