الكثير من يظن أن إدراكنا للعالم سليم، فنحن نرى السيارات أمامنا فلا نتصادم، وهذا الكلام نصفه صحيح. نحن ندرك العالم بخمسة منافذ: تهييج الوعي واستيعاب الحواس وعمل الفكر وتعاون وتخزين الذاكرة واللغة التي بها نتخاطب. ولكن الحواس مضللة، واللغة مشوشة غير دقيقة، والفكر ملوث بالعادات الخاطئة. كما أن نقل اللغة يتم بثلاث فلاتر مشوشة بدورها فتزداد اللخبطة. بين النطق والسيمياء والكتابة مثل الكوبي عن الكوبي عن الكوبي فيصل باهتاً مشوشاً أكثر. نحن إذاً نعيش في ظلمات بعضها فوق بعض، ويظن البعض أنهم أمسكوا بالحقيقة النهائية. كذلك فإن الفيزياء الحديثة تدخلنا إلى عالم كمومي، تنتهي فيه الفيزياء التقليدية وتتحطم الحتمية وتنهار الموضوعية بغير أمل. إدراكنا للعالم مشوش ثلاث مرات عن طريق الحواس واللغة والثقافة. فأما الحواس فهي بدورها مشوشة ثلاث مرات: العتبة والفرق والطيف. وأما اللغة فهي مضللة بثلاث: التعميم والحذف والتشويه. وأما الثقافة فهي تخلق الأوهام بقوى عاتية أربع كما يقول بيكون: أوهام القبيلة وأوهام السوق وأوهام المسرح وأوهام الكهف. فأما الحواس فهي الفلتر الأول وهو غير نقي. فإذا أمسكنا بأنبوب يمر فيه ماء بارد شعرنا بالبرودة. وإذا قبضنا على أنبوب يمر فيه ماء دافيء شعرنا بالسخونة. ولكننا إذا مسكنا الأنبوبين معاً صرخنا من السخونة المريعة. وفككنا يدنا عنه بسرعة كمن لدغته أفعى. والضفادع لا ترى الأشياء الساكنة، وهذا هو سر أنها مسلطة على الحشرات التي تطن فوق أذنها. أما الضفادع نفسها فترسو في بطن الثعبان الذي يرى المتحرك والساكن فيلتقم الضفدع وهو مليم. والطفل لو عرضنا أمامه ثلاثة أنابيب من الزجاج الأول طويل نحيف، والثاني دورق منتفخ البطن، والثالث إناء مثلث، وجعلنا الماء في سوية واحدة بين الثلاث، اعتبر الطفل أن كمية الماء الموجودة في الآنية الثلاث واحدة. ولو شرحنا له الفرق لاستوعب، ولكنه سرعان ما يرتد إلى العادات العقلية فلا يربط بين الحجم والكمية. ولا ينمو عقل الطفل إلى فهم المجرد إلا بعد تجاوزه السنوات السبع الأولى. ومهما تحدثنا للغلام الصغير عن معنى اللذة الجنسية لم يفقه منها شيء إلا كما يفهم القط في فلسفة أرسطو. وفكرة الانفجار العظيم اتفق عليها الفيزيائيون ولكنها كما قال المناطقة قديماً: فسر الماء بعد الجهد بالماء، فهي أشبه بلغة الجان، ولا يمكن تصور عالم خالٍ من المادة والزمان والمكان بسبب ارتباط عقولنا بأفكار قبلية كما يقول الفيلسوف كانت. “والله يعلم وأنتم لا تعلمون”.