تفرد الشيخ الأكبر الموصوف بالكبريت الأحمر محيي الدين بن عربي بمنظومة واسعة من التعابير والمصطلحات التي اجترحها، ولقد انعكست هذه المنظومة، بصورة أخص في عناوين كتبه ومنها على سبيل المثال لا الحصر كتاب “الفتوحات المكية” الذي يشمل رؤية الشيخ تجاه المكتوب بوصفه فتحاً، والمقصود بالفتح هنا، التنزلات والإلهامات والمنامات والرؤى وهي تعني في مفهوم محيي الدين قولاً يتجاوز القول، ومعنى يتفتّق عن معانٍ متعددة، ولا نهائية، وبهذا المعنى قال في فتوحاته كل ما يمكن أن يوصف شرحاً ومفهوماً ودلالة وعبارة وإشارة تنتمي إلى علوم التصوف.. وفي أفق آخر، نقرأ ديوانه الأصفى والأحلى “ ترجمان الأشواق” الذي استخدم فيه الشيخ كلمة ترجمان بدلاً من ترجمة، في إشارة إلى الغوص في جوانيات الأنا، المترعة بالضنى والإلهام والمحبة والعشق، وفي هذا الصدد تماهت أناه بالمعشوقة المتجسدة في المعاني قبل الرسوم، وفي اللوامع قبل الجسوم، وفي التنزيه قبل التشبيه.. يُقال إنها كانت فتاةً مبهرة الجمال، التقاها صدفة في مكةالمكرمة، وعرف والدها، وكتب في خصالها وصفاً يطال العقيق المتجوهر في أساس الجمال والجلال، فإذا كانت الصوفية يصدحون بإنشادهم قائلين: على العقيق اجتمعنا نحن وسُود العيون فإنهم بذلك ينزحون بتلك الأحجار الثمينة إلى مفهومات تتجاوز حدود الظاهر، فلكل كائن عقيقه، ولكل عقيقة خاصيتها الخاصة، فإذا اجتمعنا على العقيق، فكأننا اجتمعنا في عين الفرق، ولذلك فإن الفتاة “نظّام” لا تمثل ذاتها بوصفها عراقية، شامية، يمانية، بل بوصفها كل ذلك، وهو فيما يترجم عنها ترجماناً، ويقرن هذا الترجمان بالأشواق، ينفتح على كل أسباب الوجود، والشاهد، أن البعض استنكر على الشيخ هذا الغزل البوّاح، كقوله: عللاني بذكرها عللاني مرضي من مريضة الأجفان هفت الورق في الرياض وناحت شدو هذا الحمام مما شجاني بأبي طفلة لعوب، تهادت من بنات الملوك بين الغواني حتى يقول: أيها المنكح الثريا سهيلاً عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استهلت وسهيل إذا استهل يماني ويقول في مكان آخر: هي بنت العراق بنت إمامي وأنا ضدها سليل يماني استنكر عليه الناس هذه الأقوال واعتبروها نوعاً من البوح لا يليق بمقام الشيخ، فكتب ترجمة لترجمانه، او تفسيراً لترجمان الأشواق، ومما قاله في هذا الصدد إن سهيلاً والثريا نجمتان تظهران في الشام واليمن، وهما لا تلتقيان في الأفق المرئي، بعدسات إبصارنا، ولكنهما، في منظومة القوانين الكونية يتجاوزان الزمان والمكان، يقول الشيخ الأكبر: رأى البرق شرقياً فحنّ إلى الشرق ولو لاح غربياً لحنّ إلى الغرب وإن غرامي بالبروق ولوحها وليس غرامي بالأماكن والتُّرب وعلى ذات النسق، لا يستخدم الشيخ الأكبر مصطلح النكاح بالمفهوم الذي يتبادر إلى ذهن العوام، بل يستخدمه في إطار النظر إلى كل ثنائيات الوجود التي تتواصل وتتفاصل، تندمج وتفترق، تتّحد وتتفارق، وهذا أمر مشهود في كل ظواهر الوجود القائمة على ثنائيات الموت والحياة، السالب والموجب، الزائد والناقص، الجبر والخيار، العقل والنقل، المكتسب والمطبوع، إلخ.. يثبت محيي الدين في جملة العناوين التي يستخدمها، تلك الإشارة الحاملة كامل أفكاره المسطورة في فصوصه ونصوصه، وأعتقد جازماً أن ديوانه “ترجمان الأشواق” يُمثل أقصى طاقاته الشعرية والغنائية والمفاهيمية، تماماً، كما هو الحال في كتابه “فصوص الحكم” الذي يحمل أقصى طاقاته المرتبطة بمنظومة المفاهيم الخارقة لدوائر الزمان والمكان، عطفاً على محطات النبوءات والرسالات، منذ إبراهيم عليه السلام وإلى خاتم الأنبياء والمُرسلين محمد صلى الله عليه وسلم. [email protected]