ثلاثة أخبار نقلها المؤرخون جانبوا فيها وجه الصواب ولم يكشف هذا سوى ابن خلدون صاحب العقل التحليلي: نكبة البرامكة على يد هارون الرشيد الخليفة العباسي، وقاد موسى جيشاً بلغ تعداده ستمائة ألف مقاتل، وبنى الأهرامات رجال عمالقة. وفند ابن خلدون كل هذه الأخبار من خلال (أدوات عقلية) حلَّل بها الخبر. الطبيب يفتح البطن بالمشرط، والكاتب أدواته الفكرة والحبر والقرطاس، والنجار يعالج الخشب بالمنشار والمطرقة، والميكانيكي يصلح الموتور بمفك البراغي، والفيزيائي يتعامل مع الوجود بالقوانين الفيزيائية، وعالم الاجتماع يضع في حسابه قانون الإحصاءات والاحتمالات، وعالم النفس يدرس عمل الغريزة وتحولات المشاعر، ويقوم المؤرخ باستنفار أدواته المعرفية لسبر بطن التاريخ، لدراسة حدوث ما يحدث، تحت الأسئلة العقلية الستة الكبرى ماذا حدث؟ لماذا؟ وكيف؟ ومتى؟ وأين؟ ومن؟ وتكمن قدرة تحليل الأحداث عند المؤرخ على مجموعة من العلوم تقربه من فهم الظاهرة التاريخية. وأعظم تحدٍ يواجه العقل مشكلة تفكيك النصوص لقراءة الحقيقة بين سطورها، وهو ما جعل ابن خلدون القديم يؤكد على اعتماد منهج التحليل وعدم التورط بصحة النقل فقط. ويذكر (ابن خلدون) ستة أمثلة عن مخاطر (التورط) بقوة النقل فقط، وقع فيها على حد تعبيره أئمة (النقل والتفسير) دون الاعتماد على تفكيك الخبر، وتقليب وجوهه، وإمكانية مطابقته للواقع وإحداثيات الأيام. ومن الأخبار التي ذكرها ونفاها على الرغم من مصدرها اللامع أخبار ملوك اليمن (التبابعة) الذين كانوا يغزون من قراهم باليمن إلى شمال أفريقيا والمغرب، معتمداً في تفنيد الخبر على اعتبارات (جغرافية) و(ديموغرافية) و (تاريخية) و(لوجستية) فلا يمكن العبور إلى المغرب بدون امتلاك الشام ومصر، ولابد من الاصطدام بشعوب قوية، ويجب أن يسمع الناس بأخبار هذه التحركات العسكرية الكبيرة، ثم تأتي مشكلة تموين كل هذه القوات. ويرى ابن خلدون أن سهولة الكذب والتجاوز في الأرقام سببها غياب الروح النقدية: (ولوع النفس بالغرائب، وسهولة التجاوز على اللسان، والغفلة على المتعقب والمنتقد، حتى لا يحاسب نفسه على خطأ ولا عمد، ولا يطالبها في الخبر بتوسط ولا عدالة، ولا يرجعها إلى بحث وتفتيش؛ فيرسل عنانه ويسيم في مراتع الكذب لسانه). ولكن فتح الباب النقدي وإعمال العقل للمراجعة ليست قضية سهلة، فأصعب الأشياء على النفس هي النقد، ومن لا يصدق فليجرب أن يمدح شخصاً ما، ثم يقوم بنقده في مجلس آخر، أو محاولة الاعتراض على أفكاره. إن النفس لا تسكر بخمر كالثناء ولا يعكر المزاج مثل النقد. وأذكر عن أخ فاضل أنني ذكرت له واقعة من تاريخ ابن كثير حينما ينقل أخباراً خرافية عن رجل حبل وولد فتضايق؟ وهذا يعني أن تاريخنا اكتسب طابع القدسية وهو أخبار الرجال. وينقل عن الإمام علي كرم الله وجهه قوله المشهور: لا تعرف الحق بالرجال اعرف الحق تعرف أهله. والله الغني «وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم».