ليس كل ما يلمع ذهباً، ولا كل ما يقال صدقاً وعدلاً، وفي كثير من الأحيان تختلط الحقائق بالأوهام، ولذا وجب النظر في كل كلامٍ، بعين النقد والتمحيص، فننمي العقل النقدي أكثر من النقلي، والنقل ترداد على طريقة الببغاوات. وهذا ما يميز الإنسان عن الطيور والحشرات. ويأتيني فائض من غثاء الانترنت كل يوم؛ فأتخلص من معظمه وأتفحص القليل لنقده، ومما جاءني ما أرسله لي أخ من مونتريال من كندا من مقتطفات في خمس عشرة فقرة، قبلت بعضا ورفضت الأكثر، وبهذه الطريقة ندرب القارىء ألاّ يتقبل كل كلام على أنه نهائي، بما فيه ما أكتبه أنا الآن. وفي مقدمة ابن خلدون قواعد رائعة لتقبل الأخبار، فقال إن الأخبار يجب ألاّ تتقبل على عواهنها، بل تعرض على أدوات السبر والتمحيص. وأنا أحببت في هذا التعليق أن أرد على الأخ فأضيء بصيرته، وأشك أنه سوف يستفيد منها، ولكن كما في القرآن عن قصة أصحاب القرية، حينما تورط أهل القرية بالمعصية؛ فصادوا سمكا في يوم السبت، وهو منهي عنه، وما زال تقليداً عند اليهود المتدينين اليهود حتى يومنا هذا؛ فإذا جاء السبت على يهودي في مونتريال هذه الأيام، وهو يسوق سيارته في الطريق السريع توقف، وقد نسخ حكمه كما نسخت أشياء أخرى حكاها القرآن، وفي قصة أصحاب القرية أصبحوا ثلاث فرق: بين ناهٍ عن الموعظة، وواقع فيها، ومعتزل. فقال الأول: معذرة إلى ربكم ولعلهم ينتهون. وأنا أتبع هذه القاعدة في أفكاري أو هكذا أزعم؟ وعند ابن خلدون أن الأخبار إذا اعتمد فيها على (مجرد النقل) ولم تعرض لستة اختبارات، فلا يأمن فيها الإنسان من العثور، ومزلة القدم، والحيد عن جادة الصدق. ويقول إن هذا وقع كثيراً لأئمة النقل والتفسير ويذكر ستة نماذج، وأظن أن نفس ابن خلدون وقع في هذا الخطأ، في كتابه عن التاريخ، بدءاً من عنوانه السجعي المشهور( كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر)؟! وهو عنوان يحتاج إلى حافظة ممتازة مهتمة، بالإبقاء على مثل هذه العبارات الطنانة في الذاكرة، دليلاً على هامشية العقل واستبداد الألفاظ فيه، ولكن ابن خلدون نفسه لم يكن ليتملص من قبضة الثقافة وإحداثيات التاريخ والجغرافيا. قال (ابن خلدون): إن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل، ولم تحكم أصول العادة، وقواعد السياسة، وطبيعة العمران، والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس فيها الشاهد بالغائب، والذاهب بالحاضر؛ فلا يأمن فيه الإنسان من العثور... الخ كلامه. وهذه الفقرات الست، أو لنقل قوانين التاريخ، كتب فيها (حسن الساعاتي) كتاباً كاملاً، ولكن حسب إطلاعي المتواضع، فإنه ليس الساعاتي ولا ساطع الحصري كانا ممن أجادوا في الكتابة عن ابن خلدون مثل عالم الاجتماع العراقي (علي الوردي) فقد وضع رسالته في الدكتوراه في أمريكا عن الرجل، في كتاب حمل اسم (منطق ابن خلدون)، فأجاد وأبدع، ولقد هدتني لهذا الكتاب، الكاتبة هيام الملقي جزاها الله خيراً، فعكفت على الكتاب فترة طويلة، أتمعن فيه وأدرس واستفدت منه خيراً كبيراً. وهي عادتي في اكتشاف الأدمغة الجديدة، أو الأبحاث الهامة، فأشتغل عليها كثيرا، كمثل من يحطم أحجار الجبل، فأحوله إلى دقيق مثل البودرة، ثم أضيف له ما أشاء من مواد فأحوله إلى عجينتي الخاصة بي، فيصبح قطعة من زادي المعرفي، ثم يتفاعل مع بقية المكونات، فتخرج أزهاراً وحدائق ذات بهجة للناظرين، وهي خصلة لمن اشتغل بالعلم فترة طويلة، فيفتح الله عليه من حكمه اللانهائية فيقبض قبضة من أثر الرسول.