مدخل: تتصف الدراسات الأولى للمجتمع بوجهة النظر الغائية والمعيارية ، والغائية تعني البحث عما ينبغي أن يكون عليه التنظيم الاجتماعي والسياسي الأفضل ، أما المعيارية فهي تلك القواعد والوسائل التي بمقتضاها تحقق المثل العليا والغائية المطلوبة . هذه هي وجهة نظر الفلاسفة التي تبناها كتاب (الجمهورية أو القوانين) لأفلاطون، وكتاب السياسة لأرسطو. وعندما قامت حضارة روما على أنقاض حضارة اليونان ، أتجه الفكر الروماني نحو وضع دعائم الحقوق والتشريع ، واهتموا بفلسفة الأخلاق عازفين عن الفلسفة الاجتماعية ، والفكر الروماني عموماً أغنى في ظهوره الكثير من النظم القانونية والسياسة للمجتمع ، وبعد انهيار الإمبراطورية الرومانية ظهرت بعض الحركات الفكرية الأخلاقية المسيحية ، ومن أبرز المفكرين في هذه الحركات القديس (أوغسطين) الذي وضع أفكاره حول المجتمع في كتابه (مدينة الله) الذي حاول أن يبين فيه مزايا المدينة السماوية الخالية من الظلم والجشع والمفاسد لكنه لم يبين كيفية إقامة هذه المدينة ، فبقيت أفكاره مجرد أحلام ، وعند ظهور الإسلام وانتشاره في القرن السابع الميلادي ، وانتشر معه ما جاء به القرآن والسنة من مبادئ اجتماعية كان لها إسهام كبير في الفكر الاجتماعي ومن المفكرين البارزين في هذا المجال (الفارابي) الذي لقب بالمعلم الثاني بعد أرسطو . اهتم الفارابي بدراسة المدينة الفاضلة وكيف يجب أن يكون رئيسها ، فالشروط التي يجب أن تتوفر في رئيس “المدينة الفاضلة” بحسب الفارابي أن يكون منصفاً بالحكم ، وحافظاً للشرائع وفيه خصال روحية وفطرية وإدارية ، لا تجتمع في أي إنسان، لأنها صفات لا تكون إلا للأنبياء والملائكة ، لذلك جاءت تلك الصفات ممتزجة بالفلسفة والتصوف ويعتبر فكر الفارابي الاجتماعي غائياً شأنه شأن أفلاطون وأرسطو لأنه كان يكتب عن المجتمع كما ينبغي أن يكون وليس كما هو عليه فعلاً . أما ابن خلدون كمفكر إسلامي فإنه في “علم العمران”لأول مرة يدخل التاريخ إلى قلب حركة المجتمع ، فعنده لا تاريخ خارج المجتمع ، وقد استفاد من الفكر اليوناني والروماني والمسيحي والإسلامي ، واستفاد أيضاُ من تجربته الشخصية فقد شارك في الحلم وعاش “العمران البدوي” والعمران الحضري ، عاش حياة التشرد في العمران البدوي ، وعاش حياة العزلة والتأمل في قلعة ابن سلامة في الجزائر المكان الذي صاغ فيه مقدمته فمن اطلاعه الفكري الواسع وتجربته الشخصية الفريدة استطاع أن يصيغ علمه الجديد (علم العمران). 1)التصالح بين عالم العقل وعالم الغيب : أقدم ابن خلدون على صياغة علمه الجديد “علم العمران” بعد أن كان قد حسم التضاد القائم بين عالم العقل وعالم الغيب، في النظرة للأشياء والظواهر والاجتماعية، وهناك من يلخص النظرة المعرفية للظواهر والأشياء في ثلاثة مواقف: -الأول: يعتبر أن الوجود كله في متناول العقل الذي يمكنه الإحاطة به،وأن هناك تطابقاً بين العقل والوجود تطابقاً يؤدي إلى العلم الموثوق به .. -الموقف الثاني: يعتبر أن العقل عاجزاً منذ البداية .. -الموقف الثالث: ينظر إلى أن العقل والغيب يتداخلان ويتمايزان في آن واحد، فهما يتداخلان من حيث أن هذا العالم مخلوق ,مسير من قبل إرادة الهيئة متعالية عنه،ولكن للطبيعة مع ذلك منطقها الذي يجعل العلم بها موثوقاً به . وهذا يعطي لقوانين العقل مصداقيتها ,ولعلوم الطبيعة مشروعيتها ,وهذا هو الموقف الذي نجده عند ابن خلدون، وقد نجد الموقف نفسه عند غيره من مفكري الإسلام كابن حزم مثلاً.. ولكن هناك تفرداً في هذا الموقف عند أبن خلدون في كونه بسط هذا النظر العقلي على الكيفيات التي ينتظم بها البشر اجتماعياً ..صحيح أننا نجد عند غيره أيضا اعتقاداً بأن للطبيعة نظامها الضروري الذي يجعلها موضوعاً مستقلاً للعلم العقلي ,إلا أن أبن خلدون ادخل المجتمع (أو الاجتماع الإنساني حسب مصطلحه)في مجال العقلانية وهو ما أدى به إلى النظر إلى المجتمع لا كوقائع منفردة وظرفيات بل كنظام له منطقه الذاتي وبنياته الموضوعية فكان علمه العمراني(1) لذلك نجد أن النظرة المعرفية العقلانية عند أبن خلدون تمتلك المقدرة الكافية لتمحيص وتشخيص وقائع التاريخ وظواهره الاجتماعية دون أن تتعارض مع إيمانه بالله ,فقد آمن بأن المجتمع كائن تاريخي يتطور حسب قوانين خاصة يمكن ملاحظتها وتحديدها ورأى أن تلك القوانين يجب أن تستخلص من تاريخ موضوعي يعتمد الحتمية وقابل لأن يحلل مجموعات الظاهرات المجتمعية. ثم أكد أنها هي الشروط التأسيسية للعلم الجديد “علم العمران البشري “علم يتعلق بقابلية الإنسان على أن يحيى حياة مجتمعيه . ويتجلى بوضوح التصالح بين نظرته المادية ونظرته الإيمانية –العقل والغيب –للواقع الاجتماعي على قاعدة استقلالهما وتداخلهما في آن ..في المقدمة الأولى للفصل الأول بعنوان “العمران البشري على الجملة “ذكر مشيئة الله فيما حوالي ثمان مرات وفيها يبين “أن الاجتماع البشري ضروري ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم أن الإنسان مدني بالطبع أي لابد من الاجتماع الذي هو المدنية في اصطلاحهم وهو معنى العمران وبيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان وركبه على صورة لا يصح حياتها وبقاؤها الإ بالغذاء ,وهداه إلى التماسه بفطرته وبما ركبه فيه من القدرة على تحصيله ,إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء (3). الاجتماع الإنساني أو العمران البشري مشروط بالتعاون في العمران البدوي وهو ضروري لإنجاز الأعمال التي على الجماعة القيام بها والذي حددها أبن خلدون بالعمل الزراعي من البذار وحتى الحصاد وإخراج الحب من السنبل، وما يترتب على الحياة المعيشية والعملية من حدادة ونجارة ومواعين ومن سلاح للدفاع عن النفس من عدوانية الحيوان،كل ذلك لا يمكن أن يتوفر بدون التعاون الضروري بين الجماعة “وما لم يكن التعاون فلا يحصل له “أي الواحد”على قوت ولا غذاء.. ولا يحصل له أيضا دفاع عن نفسه لفقدان السلاح فيكون فريسة للحيوانات ويعاجله الهلاك مدى حياته ويبطل نوع البشر(4). إذن العمران البشري في بدايته محكوم بشرط التعاون الذي بموجبه يحفظ للعمران بقائه وإذا كان التعاون حصل له القوت للغذاء والسلاح للمدافعة وتمت حكمة الله في بقائه وحفظ نوعه فإذا هذا الاجتماع ضرورة للنوع الإنساني وإلا لم يكمل وجودهم وما أراده الله من اعتمار العالم بهم واستخلافه إياهم،وهذا هو معنى العمران الذي جعلناه موضوعاً لهذا العلم(5) . و إذا ما تم اعتمار العالم بالبشر بعد أن توفر لهم بالتعاون الغذاء للحفاظ على البقاء والسلاح للدفاع من عدوانية الحيوانات المفترسة تبرز لدينا عدوانية إنسانية طبيعية تتواجد في ذات الإنسان،هذه العدوانية لا بد لها من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم ...فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلب والسلطان واليد القاهرة حتى لا يصل أحد غيره بعدوان،وهذا هو معنى الملك(6). وقد تبين لك بهذا خاصة للإنسان طبيعية ولا بد لهم منها” ويدحض أبن خلدون آراء الفلاسفة الذين حالوا “أثبات النبوة بالدليل العقلي وانها خاصة طبيعية للإنسان .. وأنه لابد للبشر من الحكم والوازع وذلك الحكم يكون بشرع مفروض من عند الله وفيه من خواص هدايته ليقع التسليم له ، والقبول منه حتى الحكم فيهم وعليهم من غير برهانية كما تراه ، إذا الوجود وحياة البشر قد تم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على حاجته (7) . ولا يعني ذلك بأن ابن خلدون لا يؤمن بالنبوة لأن ابن خلدون يؤمن بالنبوة بالوحي لأنه كان مسلماً يعيش في عصر يعتقد بالكهانة والسحر ، لأنه كان يعيش في عصر غير عصرنا في عصر ازدهرت فيه العلوم الغيبية إزدهاراً واسعاً ولكن ابن خلدون لم يكن يؤمن بذلك إيمان العوام بل لقد حاول أن يضع إيمانه هذا في قالب عقلي (8) . وقد برهن على دحضه رأي الفلاسفة حول أن النبوة خاصة طبيعية للإنسان بالقول “فأهل الكتاب والمتعبون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب فإنهم أكثر أهل العالم ، ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار،فضلاً عن الحياة وكذلك هي لهم لهذا العهد)(9). إن التصالح الذي أقامه ابن خلدون بين نظرته المادية ونظرته الإيمانية شملت الكثير من مظاهر الحياة الاجتماعية فقد “حاول بكل قواه إظهار التكامل بين ما هو روحي وما هومادي بين ما هو طبيعي وما هو اجتماعي، بين ما تقتضيه “طبائع العمران” وبين ما تقرره المشيئة الإلهية،وبالجملة فقد حاول أن يجعل من مجموع الظواهر العمرانية من البداوة إلى الحضارة ، من العصبية إلى الدولة،من الخلافة إلى الملك،من التجارة وأنواع الكسب،إلى العلوم وأنواعها ،من العقل والتفكير المنطقي،إلى النبوة والكهانة والسحر،من الطب إلى الكيمياء والتنجيم . حاول أن يجعل من كل ذلك مظاهر خاصة للمعقولية ، قابلة للدراسة والتفسير لأنها كلها تخضع للمشاهدة والتجربة والاستقراء (10) . 2-منهجه العلمي : يقوم المنهج العلمي لابن خلدون على قاعدة أن الواقع المادي هو موضوع العقل في ظواهره المختلفة فعند ما قام بتحليل وتفسير الفتوحات الإسلامية الكبرى خلال القرنين السابع والثامن عشر،استند إلى مفاهيمه العلمية التي تختلف عن مفاهيم القديس “أوغسطين” الذي اعتبر أن الأسباب العميقة لمجمل مظاهر الحضارة القديمة تكمن في نظرات العناية الإلهية . “إن الإنسان ابن عوائده ومألوفة لا ابن طبعه ومزاجه” . إن مثل هذا الرأي موجود في أثار عدة مفكرين إسلاميين ولكن ابن خلدون في هذا المجموع المركب الذي تشكله “عادات الشعوب وممارستها” يميز عوامل وعواقب محددة فيقول : “إن اختلاف الأجيال في أحوالهم ، إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش” ..في هذه العبارة يظهر ابن خلدون بوصفة رائد المادية التاريخية (11) . ولذلك فإن “علم العمران البشري لابن خلدون يقوم على أساس ، أن تحصل الحاجة يعد حجر الزاوية في الاجتماع الإنساني وضرورته ، وأن تغيير العمران حقيقة أساسية فأحوال العالم والأمم لا تدور على وتيرة واحدة ، وإنما هو اختلاف الأيام والأزمنة والانتقال من حال إلى حال ..وعليه فإن ابن خلدون ركز على الأبعاد النظرية والعملية ، والعمليات الهامة التي كانت ولا تزال من بين أبرز ما يميز علم الاجتماع عن غيره من علوم الإنسان والمجتمع وأكد أيضاً الأخذ بمنهج المقارنة بين ماضي الظاهرة وحاضرها ، وأن أهمية العلم تكمن في وصوله إلى صياغة القوانين التي تحكم العمران من خلال الملاحظة والتحليل والتفسير في إطار تاريخي معين ، كما أن “منطلق الفكر الخلدوني في (المقدمة) منطلق مادي والمقدمة تكاد تكون بكاملها بحث في أسباب أزمة التطور التاريخي للمغرب واحتدامها في القرن الرابع عشر في تاريخ المغرب،ومن منطق هذا التاريخ نفسه يبحث ابن خلدون عن هذه الأسباب ، فلا يرجعها إلى مبادئ فلسفية قبلية يسقطها من خارج على هذا التاريخ وواقعه، كما قد يفعل فيلسوف من قبله ، منطق الفكر الخلدوني علمي لأنه بالضبط منطلق مادي ، فابن خلدون يعالج مشكلة محددة هي مشكلة تلك الأمة التي كان يتلمسها في مظاهر انحطاط المغرب في القرن الرابع عشر (12) . وبشكل عام فإن ابن خلدون قد صاغ لنفسه قاعدة منهجية وهي “التشخص المادي” تلك القاعدة التي جعلته يرفض الصور التي ليس لها مادة .. ومن الصور التي لا مادة لها ما نقله المسعودي في حديث مدينة النحاس،وأنها مدينة كل بنائها نحاس بصحراء سجلمانه ، .. وأنها مغلقة الأبواب وأن الصاعد إليها من أسوارها إذا أشرف على الحائط ، صفق ورمى بنفسه فلا يرجع آخر الدهر (13) . وقد استخدم ابن خلدون كلمة مادة بمعاني مختلفة في أكثر من موقع في مقدمته، استخدمها بالمعنى الطبيعي (الفيزائي) لتدل على العنصر الجماد الذي يشكل وفقاً لإرادة الإنسان، واستخدم كلمة مادة لتدل على العنصر المعنوي،كالجاه أو الوازع وعلى قدرته على القهر والسيطرة على أبناء جنسهم،واستخدمها بالمعنى الأرسطي إلى حد ما،فالعمران مادة في نفسها “إمكان” للتطور بالانتقال من صورة إلى صورة أرقى،ومثال ذلك تطور العمران من البداوة إلى الحضارة ويقرر “أن الدولة، الملك للعمران،الصورة للمادة وهو “أي العمران” الشكل الحافظ لوجودها، فالدولة دون العمران لا تتصور، والعمران دون الدون والملك متعذر، وفي موقع آخر يقول “والدين والملة صورة للوجود وللملك وكلها مواد له، والصورة مقدمة على المادة ، ويلاحظ هنا نقضه لقول أرسطو بأن المادة أقدم من الصور.. وأن كان يتفق معه في أن المادة والصورة متلازمتان ، واستخدم كلمة مادة في معرض شرحه للجمال لتدل على وجود الكلي المتشخص الذي يحاول الفنان محاكاته فيقول : “فإذا كان المرئي متناسباً في أشكاله وتخاطيطه التي له بحسب مادته بحيث لا يخرج عما تقتضيه مادته الخاصة من كمال المناسبة والوضع ، وذلك هو معنى الجمال والحسن في كل مدرك، كان ذلك حينئذ مناسباً للنفس المدركة فتتلذذ بإدراك ملائمها (14) . وسوف اختتم ورقتي هذه بما قاله (ايف لاكوست) عن مؤلف ابن خلدون “المقدمة” أن مؤلفه لا يقتصر فقط على أهمية إيضاح حالة المغرب في العصر الوسيط ،والشهادة على ظهور الفكر العلمي التاريخي ضمن العالم العربي القروسطي، دونما غد. فالتحليل والتأليف والبحوث التي حققها هذا المغربي العبقري في القرن الرابع عشر ، تساعدنا اليوم على إجادة فهم القضية التي هي بلا ريب ، أوسع القضايا وأشدها ما سوية في عصرنا ألا وهي التخلف (15) . الهوامش : (1)الموسوعة الفلسفية العربية معهد الانماء العربي ، المجلد الثاني، قسم أول ص 531، 532. (2) د.محمد عزيز الحبابي ،”ابن خلدون معاصراً” دار الحداثة ص 23. (3) مقدمة ابن خلدون ، دار العودة بيروت ، 1981م ص 33. (4) المقدمة ص 33. (5) المقدمة ص 34. (6) المقدمة ص 34. (7) المقدمة ص 34. (8) محمد عابد الجابري “فكر ابن خلدون ، العصبية والدولة” دار الطليعة، بيروت، طبعة ثالثة ص 109. (9) المقدمة ص 34 . (10) د. محمد الجابري “فكر ابن خلدون ، العصبية والدولة” دار الطليعة،بيروت، طبعة ثالثة 1982م ص 173. (11) ايف لا كوست “العلامة ابن خلدون” دار ابن خلدون للطباعة والنشر، بيروت، ص 193. (12) مهدي عامل، في علمية الفكر الخلدوني ، دار الفارابي ، بيروت ، طبعة ثانية 1986م ص 23. (13) ابن خلدون مؤسس علم الاجتماع،د.حسن الساعاتي ، القاهرة مكتبة الأسرة القاهرة، ص 132. (14) المرجع السابق ص 133،134، 135 ، 136. (15) ايف لاكوست، العلامة ابن خلدون ، بيروت الطبعة الثانية ،1978م ص 248