ينكفئ العقل ( النقدي) على الذات ليكتشف العالم الداخلي ، لأنه يعلم أن أرفع أنواع الوعي هو وعي (الذات) فالسعادة هي فيض داخلي قبل أن تكون (جمعاً) للأشياء خارجي ، وبواسطة اكتشاف آليات عمل الذات، يمكن مراقبتها وإدخال التصحيح على مسارها ، وهو ماهدف إليه القرآن في ( التزكية ) فزحزحة النفس من عالم (العفوية) وعدم المراجعة ، أو بتعبير القرآن (الأمَّارة بالسوء ) إلى عالم ( الانضباط ) والمراقبة ، أو بتعبير القرآن ( اللوَّامة ) ، فعندما يمسك الإنسان نفسه ب ( اللوم ) وليس لوم ( العالم الخارجي ) يكون قد شق الطريق للنظافة الأخلاقية ، ووضع يده على مفاتيح التغيير الكبرى ، وبدأ يرسم خريطة العالم الجديد ، ومن استطاع أن يسيطر على نفسه امتلك العالم في الواقع، فدخل عالم ( الطمأنينة ) القرآنية ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) ؛ فتحصيل هذا الهدوء الرائع داخل النفس الإنسانية ، هو ذلك الوضع الذي يكتشف فيه جوهره النفيس . إن الحاسة ( النقدية ) التاريخية التي تمتع بها (ابن خلدون ) دشنت طريقة نادرة ومنهجاً انقلابياً في تاريخ الفكر الإنساني ، فالأخبار بعد اليوم لاتكتسب صحتها ممن رواها ، بل باستنطاقها هي بالذات ، ومن خلال (الواقع ) فأصبح الواقع هو المرجع في الحكم على (الواقعات ) ، فصخرةٌ ما هي أدل على نفسها من كل نص كتب عنها ، أياً كان كاتبه ومصدره ، والسر سهل وبسيط ، لأن أي توصيف لها يتناول إحدى حقائقها ، في حين أن وجود ( الصخرة ) و( واقعها الذاتي ) يبقى مصدراً يضخ المعاني التي لاتنتهي ، وجذع الشجرة يروي قصته بحلقاته الداخلية ، بل وحتى الفصول العسيرة والصعبة التي مر بها ، والأرض تحدث ( بأخبارها ) والأحقاب الجيولوجية التي مرت بها ، والهياكل العظمية التي (تنبش ) في صحراء عفار بالحبشة تقول إنها أصبح لها مايزيد عن ثلاثة ملايين من السنين. والنص أي نص لابد من الإحاطة بظروف ولادته ، وكيف وضع نفسه في هذا العالم ، واللغة هي ترميز للأفكار ، وهي قدرة وميزة لآدم منحت من الله الجليل ، أي أن اللفظة لاتشع بالمعنى ، بل نحن الذين نشحنها بالمعنى، والفرق كبير بين الأصل والفرع ، بين السبب والناتج عنه ، بين السراج الوهَّاج والقمر المنير ، الفكرة هي التي تبحث عن معطفها الخارجي ( اللفظ ) كي ترتديه ، وهذا المعطف قد يأكله العت والتغيرات عبر العصور والأزمنة ، وهو ماانتبه إليه ابن خلدون بحذق . هناك أسبقية وترتيب بين المعنى واللفظ ، مثل الحصان والعربة ، فالحصان يقف أمام العربة وليس العكس ، والمعنى يسبق الكلمة وليس بالمقلوب ، وعندما تضطرب الكلمات والألفاظ يبقى الواقع هو المرجع الذي نرجع إليه ، لنصحح الألفاظ ونبني كلماتنا وألفاظنا من جديد . إذا كنا في ( منحلة ) ووضعنا ( رمزاً ) على طبيعة إصابات بعض النحل داخلها ، سواء في شكل كلمات ، أو إشارات ترسيمية - واللغة هي رسم يدنا في النهاية - مثل ( فارغة ) أو ( مريضة ) أو ناقصة ، أو جاهزة للقطف . فإذا اختلطت علينا ( الرموز ) بسبب أو آخر ، نزعنا الرموز كلها ، ورجعنا إلى كل خلية نحل ، أي إلى ( الواقع ) كي نصحح رموزنا من جديد ، أو أن نكتب رموزاً جديدة ، فالواقع هو الذي يصحح في النهاية كل أوهامنا التي تخطها أيدينا . كان الجانب الثوري في تفكير ابن خلدون ، هو أن تعديل الرواة قبل تأمل الخبر بحد ذاته هل هو ممكن أو ممتنع إضاعة للوقت ، وسير في الطريق غير السليم ، وترتيب مضلل . ووضع ست قواعد لتأمل الأخبار ، ثم ختمها بست نماذج تطبيقية ، فالخبر ( المنقول ) ولو كانت سلسلة نقله ذهبية ، لايعني شيئاً إذا اصطدم مع الواقع : ( لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني ولا قيس الغائب منها بالشاهد والذاهب بالحاضر فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق). وعندما ذهب يطبق هذه القواعد الذهبية ، بنى أشياء وهدم مقابلها أموراً لم تخطر على قلب بشر ، فالأهرامات لم يبنها العمالقة ، بل بشر مثلنا متفوقون في الرياضيات والهندسة المتطورة ، وإرادة البناء ، وسيطرة مفهوم اليوم الآخر ، فضلاً عن الجبروت الفرعوني . وموسى (عليه السلام ) لايعقل أن يسوق جيشاً قوامه 600 ألف جندي لسبب بسيط متعلق بالتعبئة العسكرية وقيادة المعارك ، فجيش لايعلم طرفه مايحدث في الطرف الآخر غير ممكن وممتنع ، لعدم تطور نظام ( الاتصالات ) في ذلك الوقت ، في حين أن هتلر قاد جيشاً قوامه ( خمسة ملايين جندي ) في عملية بارباروسا ، لاجتياح الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية بسبب تطور نظام الاتصالات . والعباسة أخت الرشيد لايعقل أن تقوم بالفاحشة مع يحيي بن جعفر ، فتكون هذه الواقعة سبباً في نكبة البرامكة ، ففتشوا إذاً بطن التاريخ لمعرفة السبب ، أو الأسباب الحقيقية خلف كارثة ( البرامكة ). وهكذا يستعرض ابن خلدون نمطاً خلف نمط ، فيفنده ولو رواه عالم نحرير وجهبذ من علماء التاريخ كالمسعودي والطبري وابن جرير !! . يقول ابن خلدون: (واعتبر أن أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها ، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة ، ولايرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع ، وأما إذا كان ذلك مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والجرح) ثم يخلص إلى هذه النتيجة: (وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة ، أن ننظر في الاجتماع الإنساني الذي هو العمران ، ونميز مايلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه ، وما يكون عارضاً لايعتد به ومالا يمكن أن يعرض له ، وإذا فعلنا ذلك ؛ كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار ، والصدق من الكذب بوجه برهاني لامدخل للشك فيه).