توجد قراءتان للنص الديني : قراءة حداثية متطرفة هدفها التحرر من النص ، والتخلص من سلطته, وقراءة تقليدية جامدة تصر على تجميده وتحنيطه وجعله خارج العصر ما نحتاجه حقيقة وواقعاً هو تحرير النص وليس التحرر منه نحن بحاجة إلى تحرير النص من السلطة التفسيرية للفقهاء احتلت مسألة فهم النص موقعاً هاماً ومتقدماً في الدراسات الأصولية الإسلامية ، وبذلت في هذا السبيل جهود واجتهادات مقدرة ، وكانت تلك الجهود هدفها خدمة النص الديني كتاباً وسنة ، من خلال استنطاق مدلول النص ، ووضع الضوابط والقواعد التي يتأتى من خلالها استثمار معاني النصوص بطريقة صحيحة. غير أن الحال مختلف مع القراءات الحداثية الجديدة للنص ، فالمنطلقات مختلفة والأهداف كذلك مختلفة ، فالقراءات الحداثية هدفها ممارسة النقد على النص وليس الاستمداد منه وهي ترمي إلى محاكمة النص وليس الاحتكام إليه. وبعبارة موجزة فإن هدف القراءة الحداثية هو التحرر من سلطة النص ، عبر وسائل يأتي في مقدمتها ( الأنسنة ) و ( الأرخنة ) ، وانطلاقاً من المقولة القائلة : إن النص لا يحمل أي معنى إلا ذلك المعنى الذي يصنعه القارىء ، فقد فتحت القراءة الحداثية الباب على مصراعيه أمام مختلف التأويلات والتفسيرات للنص الديني ، والتي في كثير من الأحيان لا تقدم تفسيراً أو تأويلاً بقدر ما تقدم نسفاً للنص ، وتلاعباً بمعانيه ، وتجاوزاً على دلالته اللغوية والشرعية. وفي سبيل التحرر من سلطة النص عمدت القراءة الحداثية إلى تغييب البعد المصدري للنص الديني ، وهذا عبث إذ لا يمكن فصل الكلام عن قائله ، فالقرآن هو كلام الله ، والأحاديث الصحيحة الثابتة هي كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستبعاد مصدرية النص بدعوى التحرر من سلطته ، والخروج عن القراءة التقليدية السلفية إلى القراءة الحداثية التفكيكية ، أمر لا يمكن قبوله ، ولسنا بحاجة إليه ، لأنه ليس في النص الشرعي الصحيح ما يوجب التحرر منه أو التخلص من سلطته ، فالنص الديني في خصوصيته الإسلامية هو نص تحرري ، وإذا كان لدعوى التحرر من سلطة النص ما يبررها في الفكر الغربي ، لأنهم اتخذوا من هذا الشعار وسيلة لقراءة النص الديني اليهودي والمسيحي قراءة عقلانية، وأخضعوا الدراسات التوراتية والإنجيلية لمناهج النقد الحديث ، فليس هنالك ما يبرر نقل هذه التجربة إلى ميدان الفكر الإسلامي ، لأن ما نحتاجه حقيقة وواقعاً هو تحرير النص وليس التحرر منه ، ذلك أن النص الديني قرآناً وسنة صحيحة هو نص تحرري ، يحث على إعمال العقل والفكر ، ويحث على النقد والتأمل والتحليل والاستنتاج ولا يمارس على القارىء أي سلطة أسطورية ، وإنما سلطته معرفية علمية عقلية تحررية. وكثيراً ما عبر الفقيه ابن تيمية عن هذه الحقيقة بقوله : موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول. لكن هذا لا ينفي أن النص الديني الإسلامي قد تعرض عبر مراحل تاريخية مختلفة إلى أنواع من القيود أدت إلى تعطيله وشل فاعليته وتحجير دلالته وإساءة فهمه. ومن ذلك مثلاً التعريفات الاصطلاحية المبثوثة في كتب التراث عامة وفي كتب الفقه على وجه الخصوص ، فهي لا تعدو كونها اجتهادات محكومة بظرفها التاريخي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي ، ولذلك نرى المحققين من المفكرين وعلماء الشريعة لا يسوغون وصفها بأنها تعريفات شرعية، وإنما هي تعريفات اصطلاحية ، اصطلح عليها أهل مذهب ، أو أهل تخصص في علم من العلوم بحسب اجتهادهم ومعطيات زمانهم، وبالتالي لا يجوز جعلها مرجعاً في الفتوى الدينية ، وتقييد النصوص بها ، فالنص أوسع وأشمل ولا يجوز حبسه أو تقييده بالتعريف الاصطلاحي كما لا يجوز جعل التعريف الاصطلاحي حجة في الترجيح. كذلك نحن بحاجة إلى تحرير النص من السلطة التفسيرية للفقهاء ، فمع الاحترام والتقدير لجهود علماء وفقهاء الشريعة ، لكن على الباحث أن يجعل همه وفكره متوجهاً إلى النص وليس لقول فلان أو فلان من الفقهاء والمفسرين ، فالنص الشرعي يستوعب الأزمنة والأمكنة ، ومهما كانت منزلة الفقيه أو المفسر فهو ابن بيئته ، ويجتهد لعصره ، ثم هو مقيد بمذهب ، أو بمنهج من مناهج علم الأصول وعلى أساسه يرجح ويختار. وإذن فما نحتاجه في فضاءات الفكر الإسلامي هو تحرير النص وليس التحرر منه والتمرد عليه ، فلدينا النص القرآني وهو نص تحرري من الطراز الأول ، ولا يمارس على القارىء أي سلطة أسطورية ، بل هو يفتح الآفاق الواسعة أمام الفكر ، ويحرر العقل من القيود كما يحرر النفس من الشهوات ، وأذكر هنا كلام رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير عن القرآن الكريم ، فلقد تحدث بلير عن عوامل وأسباب التطرف في العالم الإسلامي وسجل هذه الشهادة عن القرآن الكريم حيث يقول : (( بالنسبة إليّ ، فإن الشيء الأجدر بالملاحظة فيما يتعلق بالقرآن هو مدى تقدميته. إنني أكتب بخشوع عظيم كشخص من دين آخر. كأجنبي، يستوقفني القرآن ككتاب إصلاح، يحاول إعادة اليهودية والنصرانية إلى أصولهما، إلى درجة كبيرة مثلما حاول المصلحون أن يفعلوا بالكنيسة المسيحية بعده بقرون. إن القرآن كتاب شامل. إنه يشيد بالعلم والمعرفة ويمقت الخرافة. إنه عملي ومتقدم على زمانه في مواقفه تجاه الزواج، والنساء، والحكم. تحت إرشاده كان انتشار الإسلام، وهيمنته على الأراضي التي كانت مسيحية أو وثنية في الماضي كان يبهر الأنفاس. عبر قرون، أنشأ الإسلام إمبراطورية وقاد العالم في الاكتشاف، والفن، والثقافة )). وأما بخصوص النص النبوي فما نحتاجه هو تفعيل مناهج النقد التي وضعها علماء الحديث وهي مناهج رائعة ومتقدمة وكفيلة بتحرير النص النبوي وتخليصه من الشوائب لكن الجامدين يرفضون إعمالها إعمالاً شاملاً يستوعب كل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. والمتأمل في واقعنا القرائي يرى مع الأسف نوعين القراءة للنص الديني : قراءة حداثية متطرفة هدفها التحرر من النص ، والتخلص من سلطته. وقراءة تقليدية جامدة تصر على تجميده وتحنيطه وجعله خارج العصر. وما نحتاج إليه فعلاً وواقعاً في تعاملنا مع النص الديني هو تحريره وليس تقييده وتحنيطه وتجميده وشل فاعليته بدعوى المحافظة. ولا التحرر منه والتمرد عليه بدعوى الحداثة. [email protected]