البيئة التعليمية تتمثل ببناء مدرسي، ومعلم، وإدارة مدرسية، وتلاميذ، وأنشطة ومقررات دراسية، وفلسفة تعليم ونهج تعليمي متكامل، يساعد على تنمية المهارات والميول. وحين تقترب من هذه المفردات التعليمية، فإن حالة من التشاؤم سرعان ما تنتابك، فالإدارة المدرسية غير المؤهلة تربوياً، وغير المخلصة في أدائها التربوي، والمتربحة من وظيفتها الإدارية، هي ما يغلب على طابع الإدارات التربوية.. فالعقوبات، والتلاعب بالمحصلات الشهرية والنصفية والنهائية، تصبح وسيلة للتربح. وإذا أتينا إلى المعلم كأهم طرف في العملية التعليمية القائمة على الشراكة بين المعلم والتلميذ- فسنجد هذا المعلم الذي من المفترض أن يكون قدوة في سلوكه كأول فعل تعليمي يلمسه الطالب في أفعال المعلم، بسبب التعايش اليومي لمدة ساعات قد لا يقضي التلاميذ مثلها مع أولياء أمورهم، نجد هذا المعلم وقد أصبح شغله الشاغل هو كيفية ابتزاز التلاميذ تحت أكثر من مبرر، تارة باسم الأنشطة وأخرى بسبب إلزامهم شراء الملازم والمفكرات التي تلخص المقررات الدراسية، أو تعيد استنساخه، فإذا كان البناء العلمي للمعلم يزداد تدهوراً، مع السنوات بفعل ابتعاد المعلم عن تطوير مهاراته ومعارفه، بل ونسيان ما اختزنه في الجامعة من معلومات– فإن ذلك ينعكس على مستوى التحصيل العلمي، ناهيك عن تحصيل علمي ينمي المهارات ويشبع الميول والقدرات. المعلم أصبح يدرس داخل البيئة الصفية بأداء وظيفي يشبه عمله كسائق دراجة نارية، أو بائع على بسطة في الشارع، أو في أعمال البناء، كي يستطيع تغطية نفقاته المعيشية..لم يعد المعلم متفرغاً للعملية التعليمية والتربوية، وأصبح دوامه المدرسي ليس أكثر من حافظة دوام وساعات خالية من الإنتاج الحقيقي.. يمكنك أن تجد مدرساً يلزم تلاميذه بشراء ملزمة مكتوب فيها الدروس اليومية، وآخر يلزمهم بشراء دفاتر لمادته على أن تكون صورة «القدس» على غلاف الدفتر، وذلك كله ليس انعكاساً لإيمانه بالقضايا القومية والإسلامية بقدر إيمانه بكيفية ابتزاز الطلاب من خلال قيم حقة يراد من ورائها الاعتياش! فالمعلم هو البائع الحصري لمثل تلك الدفاتر! ولن نصدم حين نجد مدرساً يعطي لتلاميذه محصلات شهرية بحدها الأعلى، طالما التزم التلاميذ بدفع مبالغ مالية تحت مسمى «النشاط الصفي» لم يعد النشاط الصفي والمدرسي مرتبطاً بالمهارات والقدرات التي يمتلكها التلاميذ، وإنما أصبح متعلقاً بقدرة الإدارات التربوية والمدرس على ابتزاز التلاميذ واستغلال تقصيرهم العلمي، وتغيبهم عن المدرسة.. الإذاعة المدرسية بفقراتها المكررة والمملة، منذ عقود وهي تبدأ بحكمة اليوم وكلمة، ونشيد إسلامي ولازمة تقليدية تقول: «لا رأسمال الغرب ينفعنا ولا فوضى شيوعي سخيف أبلد».. هي إذاعة يتناقلها التلاميذ سنة بعد سنة، وعقداً بعد عقد دون أن تكون هذه الإذاعة ذات علاقة بالعصر وثورة المعلومات، والتطورات العلمية، والأجناس الأدبية، والصحافة.. لهذا يكون التلاميذ في واد، والمعدُون للإذاعة في واد آخر، وهيئة التدريس في واد غير ذي علم!.. «تحية العلم» لدى المعلمين ليست ذات قيمة، ف"العلم" رمز وثني! والسخرية به، وعدم احترامه يدخل ضمن المعتقدات التلقينية الراسخة بفعل سياسي ما! ومقرر دراسي يحفظه المعلم بشكل أو بآخر، ويعمل على استظهاره أمام التلاميذ ليستظهره بالمقابل في الاختبارات، ومسرح مدرسي ليس أكثر من أصوات متداخلة وسطحية واضحة، وأبنية مدرسية أشبه بالمعتقلات التي يشعر التلاميذ أنهم مجبرون على دفع رشوة لحارس البوابة كي يطلق سراحهم من هذا المعتقل. إدارات تربوية لا تتعامل مع المعلم بحسب إنجازه، وإنما بحسب ساعات العمل التي التزم بها في حافظة الدوام، أولياء أمور شغلتهم لقمة العيش فانصرفوا عن الاهتمام بأبنائهم وبناتهم، مدارس تعتاش على بيع المحصلات وفرض الغرامات والعقوبات المادية، عنف تجاه التلاميذ، وعنف بين التلاميذ ومنهم، ومدارس أخرى تعتبر مسألة النجاح للتلاميذ والتلميذات مجرد قرار إداري تصدره الإدارة المدرسية، فينجح جل التلاميذ، لترتفع نسبة النجاح من 20 في المائة إلى 90 في المائة، أي أنها ترتفع إلى النسبة التي تجعلنا نعيش تضخماً للجهل والتجهيل! وعلم يعمل في ظروف علمية ومعيشية بائسة.. البيئة التعليمية بيئة طاردة للتلاميذ والمعلمين في آن، أتذكر الكثير من زملائي الأدباء الذين عملوا في سلك التدريس، ولم يبق منهم في هذا الحقل سوى القلة، في حين أن جلهم قد تسربوا من بيئة التعليم نحو وظائف أخرى لا تلزمهم بالحضور اليومي، ذلك ساعدهم على أن يبحثوا عن فرص عمل في الصحافة والكتابة، كي يخرجوا من بؤس المعيشة والاحتياجات التي يعجزون عن سدادها، وكذلك عن بؤس البيئة التعليمية بمكوناتها المختلفة.. إن التطرف هو موقف ينشأ عن ضيق التفكير، وضحالة المعرفة، وبيئتنا التعليمية لا تنشئ فكراً، وإنما تسهم في تنمية التطرف.. العنف المدرسي الذي تمارسه الإدارات المدرسية، من مشرفين وإداريين، يكرس سلوكاً عنيفاً لدى التلاميذ، عنف المدرس وضعف مستواه العلمي، وانعدام النزاهة لدى بعضهم، يسهم في نشؤ هذا العنف، بل والاستهتار بالعملية التعليمية.. بالتأكيد أن بيئة التعليم ليست منفصلة عمّا يحيطنا من أوضاع اقتصادية متدهورة، وأزمات سياسية مستدامة، لهذا يصبح التكامل في المعالجات مؤدياً بالتأكيد إلى الخروج بالعملية التعليمية من واقعها الكارثي، إلى آفاق تسهم ببناء مجتمع متطور وعادل.. [email protected]