في النقاش الذي كان يدور بين (جيمس سواكرت) القس الأمريكي و(أحمد ديدات) الشيخ الهندي كان يحاول كل منهما مبلغ علمه أن يثبت للآخر أن دينه خطأ. فأما سواكرت فقال: لقد سألت الشيخ قبل دخول القاعة عن عدد النساء اللواتي بحوزته. وأما ديدات فقد استخرج نصاً من العهد القديم وقال: أتحدى سواكرت أن يقرأ هذا النص ولسوف أعطيه مائة دولار إن قرأ النص. فقام سواكرت بقراءة النص وقال: إن مال هذا الشيخ من دول البترول ونحن أولى بالمال لإعطائه للجمعيات المسيحية. وفي النهاية طلب سواكرت من ديدات أن يسمح له بمناظرة علنية في بلده كما دعاه إلى أمريكا. إلا أن ديدات قال له: إن هذا يحتاج لتأشيرة دخول وهي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله. وهو جواب قد يخدم أي قضية سوى أن يكون جواباً. كان الاثنان يحركان قضايا قديمة بكلمات جديدة وتقديم حلولاً لمسائل شائكة لا تتقدم في طريق الحل إلا بإلغاء كل حل. وفي يوم تناقش أمامي طبيبان حول مريض هل كانت مشكلته في الزايدة أو الكولون فاختلفا واشتدا في الخلاف وفي اليوم التالي جاء كل واحد ومعه أكداس من الكتب والمراجع ليثبت وجهة نظره فلم يحصدا من النقاش سوى الكراهية وقاطعا بعضهما وحاولت أن أقرب بينهما فعييت. وجوهر المسألة أن الخلافات لا تحلها الكتب و لا تنفع فيها كل الأدلة العقلية والنقلية. وما يفعله كل فريق في العادة هو البرهنة على حجته ولو افتقدت كل حجة. فالمسألة نفسية قبل أن تكون أكاديمية، وهو الذي خالف فيه (يونج Jung) أستاذه فرويد في علم النفس فقال إن أصل الدوافع عند الإنسان ليست الغريزة الجنسية بل التنافس. وحب الحقيقة أمر صعب المنال ويحتاج لمران طويل وتجرد ونزاهة لا يحققها إلا أندر النادر وبعد جهاد نفسي طويل وهو قريب من المستحيل وهذا يسبب خلاف البشر الأزلي. واعتبر المؤرخ (توينبي) أن المؤرخين أميل لتوضيح آراء الجماعات التي يكدحون في محيطها منهم إلى تصحيح تلك الآراء. وأنا أتعجب من الجدل العقيم الذي يدور في المحطات الفضائية حينما يحتجون أن أمريكا وبريطانيا تكيل بمكيالين. ولو كان الأمر للعرب لكالوا بثلاث. وعندما كان الخليفة هارون الرشيد في بغداد يلعب بالمسبحة وأقدار الأمم المغلوبة وهو يضحك من الغمامة التي تمر فوق رأسه ويقول: يا سحاب أينما ظللت فسيأتيني خراجك. فإن هذه الجملة نعتبرها تراثاً إسلامياً يستحق التدريس في المناهج. ولا يخطر في بالنا أشلاء الجماهير التي تقدم هذا الخراج للسلطان العباسي الذي ينفقه على الحريم والشعراء وتمويل الفتوحات الاستعمارية. وفي يوم تناقش أزهريان واحد سلفي وآخر صوفي وامتد النقاش بينهما وفي النهاية بقي كل منهما كما كان واعترف الصوفي لاحقاً أنه اقتنع بحجة خصمه ولكنه كابر. ولم ينقص الكافرين الحجة البينة ولكن جحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا. وروى لي رجل من حزب التحرير الإسلامي أن المعتقل ضمه مع آخر شيوعي فتناقشا لمدة عشرة أيام ولم يستريحا إلا لتناول الطعام والنوم. وفي النهاية بحت الحناجر وأصابهما الكلال فلم يستطيعا النطق ومتابعة النقاش. وفي يوم اجتمعت بشاب من جماعة الإخوان المسلمين وكانت مجلة الدعوة تتحدث عن الثورة الإيرانية بشيء من الريبة فحاولت أن أناقش الرجل ولكن ساعتين من النقاش أقنعتني أن لا أناقش حزبيا في حياتي وهي نصيحتي للجميع. وفي يوم ناقشت معجبا بكتابات سيد قطب وذكرت له أن هناك استطراداً أدبياً في كتاباته وأن 6000 صفحة من الظلال يمكن ضغطها في 200 صفحة، فكان جوابه أن كلماته مثل قوانين الفيزياء ونجوم السماء لا يمكن الاستغناء عن كلمة منها. قلت له ولكنه يصف الليل بست صفات, قال: والمانع ويمكن وصفه بست عشرة صفة. وفي يوم اجتمع صوفي مع شيوعي فكان الأول يتحدث عن آداب الحضرة والثاني عن فائض القيمة ولم تكن اللغة حاجزاً بينهما فالاثنان يتكلمان بلسان عربي مبين ولكن موجة الحديث مختلفة فكان حديثهما حديث الطرشان. ويروى عن اثنين من الطرشان أنهما اجتمعا فسأل الأول الثاني: إلى أين أنت ذاهب؟ قال الثاني: إلى السينما. قال الأول: ولكن ظننتك ذاهباً إلى السينما. قال الثاني: لا والله أنا ذاهب للسينما. وبعد ساعة اجتمعا في صالة السينما فأشار كل منهما إلى أذنه. وفي حرب الخليج الثانية احتشد مؤتمران لمناقشة الأزمة ضم نخبة فقهاء الأمة، كان الأول في جدة والثاني في بغداد فلم تحل النصوص أو الفقهاء المشكلة بل حلتها أمريكا بدون نصوص وفقهاء. وفي معركة صفين رفع الأمويون المصحف على رؤوس الرماح طلبا للتحكيم وآخر ما كان يفكر فيه الفريق الأموي القرآن، ولم يكن المقصود من القرآن الحقيقة بل التقاط الأنفاس لمتابعة خطف السلطة. والتاريخ يروي لنا بسخرية أن الذي فاز لم يكن أعدل القوم وأنزههما. ومازال تاريخنا مسلسلاً محموماً دموياً من قنص السلطة على الطريقة الأموية. وتم إخضاع الرقاب لحكم السيف فلا يعرف الأنام إلا القوة وعبادتها والإيمان بها. وما تلمظ العراق لامتلاك السلاح النووي إلا طرفا من قصة عبادة القوة. وكل من فكر في حل المشكلة استعار السيف الأموي، فلم تزدد الأمور إلا خبالاً والأوضاع إلا نكساً. ولم يتمكن أحد من إعادة الحياة الراشدية ولم يتم إعادة آلية نقل السلطة السلمي إلا عندما أشرقت الشمس من مغربها عبر الأطلنطي فبدأنا نسمع لأول مرة أن بوش يمضي ويأتي كلينتون بدون معركة صفين ووقعة الجمل. وفي ألمانيا استقبلني منذ لحظات وصولي الأولى جماعة “شهود يهوه” وهم فريق من المسيحيين وكلمة يهوه هي الله عندهم وبذلوا أقصى جهد ممكن في التبشير وهدايتي إلى مذهبهم وظنوا أنني صيد ثمين ولكن تبين أن حجم السمكة كان اكبر من شباكهم. وكانوا يقولون لي: إننا نتعجب كيف أن محمدا قرأ التوراة ولم ينقلها بأمانة؟ وبزعمهم فإن القرآن هو نسخة العهد القديم المحرفة. فكنت أقول لهم إن محمدا كان أمياً وإن رسالته هي النسخة الأخيرة مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه. وأن معلوماتهم من القرآن هي مما علمتهم إياها الطائفة. وفي مونتريال دخل جماعة من المورمون على رجل علم مسلماً فحاولوا هدايته للنصرانية فقال لهم إن بعثة المسيح تقوم على حب الخير للآخرين فلنتنافس في فعل الخيرات فماذا تقولون؟ فانقطع رجاؤهم من تنصيره فغادروا المكان ولم يعقبوا. ومن أحسن من ناقش مسائل الصراع المذهبي عالم الاجتماع العراقي علي الوردي الذي كان يضحك على الشيعة والسنة ثم على نفسه في النهاية.وفي يوم فكرت بالصراع الشيعي السني حول خلافة علي (رضي الله عنه) فقلت في نفسي سائلاً: لو أن علياً ولي الأمر فما هو السيناريو المحتمل بعده؟ أن يأتي ابنه ثم ابن ابنه وهذا سوف يدخلنا النظام الملكي من حيث أردنا الهروب منه وهو نظام تخلصت منه البشرية منذ عصر الثورة الفرنسية. ومازال الشيعة والسنة يتخاصمون حول ولاية علي مع أن القرآن يقول: تلك أمة قد خلت لها ما كسبتم ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون. وهذه الأيام أثار الناس نفس المشكلة السابقة فنبشوا مشاكل قديمة عفا عليها الزمان. كمن يُتناقش حول طرق (الزهراوي) في معالجة أمهات الدم ولم يطلع على كل تطور جراحة الأوعية الدموية. وهو نموذج يجعل المطلع يأسف والعدو يشمت وهو يشير إلى توقفنا في مربع الزمن. والسؤال الكبير: أي فائدة لنا لو أثبتنا أن عمرا كان متآمرا أو أن حديث الغدير كان صحيحاً وأن حديث التوصية كان سينص على خلافة علي. فلم يبق اليوم على ظهر الأرض أموي أو خارجي ولو بقي شيعي يبحث عبثا عن مخاصمة أموي. كما يفعل اليهود بقتال روما وتيطس ولم يبق هادريان وتراجان. إن معالجة أمراض قديمة بأدوات فشل تجربتها يعني التخلص من كل المسلمات القديمة وفتح كليات طب جديدة وابتكار أدوات معرفية تناسب حل المشاكل الجديدة بأدوات جديدة وترك التاريخ موعظة للمتقين ودليل على رحلة تطور الإنسان وأن آباءنا لم يكونوا خير البرية. واليوم تضم أوربا المتحدة الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس ولكن لا أحد يرجع إلى كالفن والبابا لا كتانتيوس وبطريرك الشرق ولا يحكم يوحنا الثالث أكثر من كيلومتر مربع لحسن الحظ. أما نحن فمازلنا مثل الصرب مجمدين في مربع الزمن. وإذا كان الصرب مجمدين عند معركة (أمسل فيلد) عام 1389 م فنحن مجمدون أبعد منهم وعيوننا تحدق على معركة صفين قبل 1400 سنة. يصف ابن كثير معركة صفين أن القوم تفانوا فطارت “أكف ومعاصم ورؤوس عن كواهلها” وأنهم “اقتتلوا بالرماح حتى تقصفت وبالنبال حتى فنيت وبالسيوف حتى تحطمت ثم صاروا إلى أن تقاتلوا بالأيدي والرمي بالحجارة والتراب في الوجوه وتعاضوا بالأسنان يقتتل الرجلان حتى يثخنا ثم يجلسان يستريحان وكل واحد منهما يهمر على الآخر ثم يقومان ويقتتلان كما كانا, وكان أشد القتال ليلة الهرير ما يذكر بهرير القطط حيث استمر طول الليل حتى شروق الشمس وتابعوا القتال فقتل من الفريقين فيما ذكره غير واحد سبعون ألفاً. خمسة وأربعون ألفاً من أهل الشام، وخمسة وعشرون ألفاً من أهل العراق, وهو رقم يذكر بمعركة كربلاء خمسة بين العراق وإيران فقد قتل ستون ألف شاب بقدر النسبة السابقة. ويذكر ابن كثير أنه كان من القتلى “25 بدرياً مع بلال” وهو أكثر ممن قتل من الصحابة في معركة بدر. وامتدت فترة القتال 77 يوماً خاض فيها القوم تسعين زحفاً. وقال الزهري إنه كان يدفن في القبر الواحد خمسون نفساً. جمعت الأجمة يوماً حصاناً ووزة فضحكت الوزة من الحصان وقالت له أنا خير منك خلقني الله أحمل صفات الطيور والحيوانات والسمك. نظر الحصان إليها باستخفاف أيتها المخلوقة أمثلي تعيرين وعلي تضحكين فلا مشيك مشي ولا طيرانك بذي بال ولا تزيد سباحتك عن عبث. ولكن انظري إليّ وعضلاتي ورشاقتي التي مجَّدها الأبطال، وحلم بها الفرسان. أنا الحصان الرائع أنا من قهر بي الهكسوس الحضارة الفرعونية. أنا من هزم به المغول إمبراطوريات الأرض. أنا من دمر بي الأسبان ممالك أمريكا الوسطى. وكان أثناء هذا الحديث قبرة تسمع الحديث بينهما فقالت لهما أظن أن فيّ من الخصال ما أتفوق به عليكم جميعا فصعق الاثنان من مائة صفة ترويها القبرة عن نفسها. وأثناء هذا سمع الضبع حديث الثلاثة فقال أنا من اختلفت قوائمه وفاحت رائحته وأسناني تطحن الحجر ويخافني الطير والبشر. وهكذا فمن أراد التفاخر اكتشف الكثير. ومن أراد كشف الأخطاء عثر على أكثر. ولكن العين عادة لا ترى بل الدماغ. وأعظم شيء يتحلى به المرء نقد ذاته وليس التفاخر. والشيطان قديما قال عن نفسه مقارن بآدم أنا خير منه ولكن آدم قال: ربِّ إني ظلمت نفسي فهذا هو سر تفوق الإنسان.