في البال أغنية يا أخت عن بلدي.. نامي لأكتبها... هناك أغنية مصرية تبدأ بالقول إن الخير من مصر وإن النور يبدأ في مصر.. إلى أن تنتهي بأن مصر لو مالت في اتجاهٍ ما فإن الدنيا تميل معها..!! وحين حدثت هزيمة 67 المروعة خرج الرئيس الراحل جمال عبدالناصر على الناس باكياً في شاشة التلفزيون معتذراً من الشعب المصري، معلناً مسئوليته عن الهزيمة وعزمه على التنحي، لكن شعب مصر رفض ذلك المشهد، وأعلن تمسكه بالزعيم الخالد الذي حاول جاهداً إزالة آثار العدوان والنهوض من جديد حتى آخر أيام حياته!! بالنسبة لكثير من المصريين فقد توقف الزمن وأحسوا بالتفاهة والبلاهة والعجز وتملكتهم رغبة في الموت.. وخُيّل إليهم أن مصر قد ماتت وانتهت!! لكن المؤمنين منهم رجعوا إلى كتب التاريخ.. ووجدوا أنفسهم أمام مفارقة عجيبة.. وأدركوا أنهم لايعرفون مصر حق المعرفة.. مصر هي محور الكون.. والعالم كله مدين لمصر. مصر لاتخضع للمقاييس المعتادة في قياس القوة.. وقوتها ليست في عدد جيشها.. ولاعتاده..!! بل من روحها، وهي شيء غير ملموس، لكنه موجود بالقطع والتاريخ يشهد على ذلك. عندما حدثت الحملة الفرنسية على مصر في نهاية القرن الثامن عشر كان كل شيء فيها ميتاً، كما وصفها الفرنسيون.. حيث كانت خاضعة للاحتلال العثماني الذي بدأ بتفريغها من عمالها المهرة ونقلهم إلى الآستانة.. وبمعنى آخر أفرغها من تكنولوجيا العصر وعزلها عن العالم تماماً، وتركها فريسة للتخلف والجهل والخرافة.. وعندما تركها الفرنسيون كان المصريون قد أدركوا أن هناك عالماً آخر يعرف وجهاً مختلفاً للحضارة.. وهو أكثر تقدماً بالتأكيد، وتوحدت إرادة المصريين لاختيار محمد علي باشا والياً عليهم وشهدت مصر بذلك بعثاً جديداً للروح الهامدة!! وبعد عشرين عاماً كان الجيش المصري على حدود اليونان، واحتاج الأمر إلى وقوف كل الدول العظمى لإيقاف المصريين بعد أن اكتسحوا في طريقهم كل بلدان المشرق العربي بأيدٍ مصرية وسلاح مصري. ولم تكن الضربة موجهة إلى محمد علي، بل كانت موجهة إلى مصر.. وجاء الخديوي عباس والخديوي سعيد، واستوعبا الدرس السابق، ومات كل شيء في عهدهم مرة أخرى.. عاد كل شيء إلى مسيرته الأولى.. الجهل.. التخلف.. تحطيم الإرادة.. فقدان الثقة بالنفس.. وعندما جاء إسماعيل وأعلن رغبته في أن يجعل من مصر قطعة من أوروبا، مد يده إلى الحضارة وانتفضت مصر كلها معه، وخلال عشرين عاماً أخرى كانت مصر قد امتدت إلى مصوّع وزيلع وهرر.. وأنشت الأوبرا في مصر.. وأنشئ المتحف المصري.. وانشئت الطرق والترع.. ودخلت السكك الحديدية مصر بعد انجلترا وقبل كثير من بلدان أوروبا. وتجمعت بريطانيا وفرنسا مرةً أخرى حين أدركوا أن المارد قد انطلق.. وانتكست مصر مرة أخرى. هذه كلها أمثلة من العصر الحديث.. أمثلة لايعرفها ولايفهمها إلا من يعرف مصر.. ويفهم أن هناك بعداً خفياً اسمه الروح، يمكن أن يفسر مالايمكن تفسيره بمقاييس القوة المتعارف عليها. فعلى سبيل المثال هناك في العالم كله أكثر من مليار مسلم كلهم يقرأون القرآن ويجودونه ومع ذلك لايمكن أن تجد قارئاً عظيماً من خارج مصر..!! ولافقيهاً ثائراً من خارج الأزهر الشريف، لم تكن مصادفة أن تكون جامعة الاسكندرية مهداً للحضارة اليونانية ومصدراً لإثرائها.. ولم تكن مصادفة أن تكون كنيسة الاسكندرية رائدة للديانة المسيحية في أنقى أصولها، وأن يسقط مئات المسيحيين في مصر شهداء في سبيل العقيدة، حين آمن المصريون بها فأصبحت جزءاً من كيانهم. ولم تكن مصادفة أن يكون أول الثائرين على الخليفة عثمان رضي الله عنه من مصر، حين أحسوا بشبهة محاباته لأهل بيته، حيث كان عدل الخليفة عمر ماثلاً في وجدانهم.. ولم تكن مصادفة أيضاً أن يكون مطلب عمرو بن العاص الوحيد من معاوية أن يعطي له ولاية مصر.. لأن ولاية مصر تعدل الخلافة على حد قوله. وليست مصادفة أن تكون اللهجة المصرية في نطق اللغة العربية هي أحلى اللهجات وأقربها إلى القلوب.. وليست مصادفة أن يخرج من مصر أساتذة الأدب العربي الحديث.. وأن يحصد اثنان من علمائها وأدبائها جائزتي نوبل..!! وليست مصادفة أن يسيطر اللحن المصري على الآذان وتتجاوب الأفئدة مع الموسيقى المصرية وتطرب لأغاني أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم!! إن القدود الحلبية الشهيرة التي يرددها أبناء المشرق العربي ليست إلا ترجيعاً لألحان سيد درويش خلال زيارته للشام. أريد أن أقول: إن هذا كله ليس مصادفة.. وإن الأمر المؤكد أن مفتاح هذه المنطقة في يد مصر.. وأن مفتاح مصر يكمن في إدراكها لقوتها وإمكانياتها. إن مصر تمتلك مفاتيح الحضارة في هذه المنطقة.. وأن تقلب دائماً حسابات الآخرين رأساً على عقب.. وأن تصبح مدخلاً حضارياً لأفريقيا والعالم العربي وتأخذ دورها في صناعة المستقبل والتاريخ بعد أن تم اختطافها لمدة أربعين عاماً ومشاركتها الجوفاء من مقاعد المتفرجين. هاهي ذي مصر تُبعث من جديد.. عظيمة ومنطلقة.. قوية وصاعدة.. قادرة وحية.. معطاءة كعهدها بالخير والحضارة.. والعدل والضمير..!!