لم تدرك المرأة وهم الشعارات التي ترفعها القوى الليبرالية إلا بعد أن وجدت نفسها بين أوراق لعبتها السياسية على طاولة المزايدات, لتدرك حينئذ سعة الهوّة التي تفصل وعي تلك القوى عن احتياجاتها الحقيقية والمعاناة التي تكابدها جراء تخلّف ثقافة قوى المجتمع الفاعلة عن استيعاب قضاياها الأساسية. فاتساع دائرة المشاركة النسوية في الوقت الراهن لم يكن في حقيقته وليد أدوار كبيرة من قبل القوى الليبرالية بقدر ما كان حصيلة انفتاح طبيعي واكب فيه المجتمع حياة عصره واستثمرت النساء ظروفه في تأهيل أنفسهن وفرضها على المجتمع.. وهو الأمر الذي ظل المجتمع يقاومه وتجتهد العديد من قواه في عرقلة مساره. وهذا ما يفسّر أسباب غياب المرأة عن البرلمان على الرغم من مضي عقدين على التحول الديمقراطي في اليمن, فضلاً عن غياب أي دور لها في التأثير على دوائر الجدل السياسي والأزمة القائمة. إن مقياس الوعي بقضايا المرأة المختلفة لا يتحدد بقوة الخطاب السياسي المتعاطف معها, وإنما بمستوى التفاعل مع الملفات التي تطرحها على مؤسسات الدولة والتكوينات السياسية المتنافسة. وثانياً بحجم البنى المؤسسية التي يتم إنشاؤها لرعاية شؤون المرأة المتنوعة, وما يمكن توصيفها بأنها البنى التحتية الأساسية الكفيلة برفع قواعد مجتمع نسوي ناضج وواعد, وثالثاً بالمعدلات العامة لنمو حياة المجتمع كاملاً. إذ لا يمكن تحقيق أي نهوض بواقع المرأة ما لم يسبقه نهوض في الحياة العامة للبلد ككل طالما قضية المرأة تفاعلية وليست خاصة.. وهنا تكمن المشكلة الأساسية التي تواجهها المرأة اليمنية. فما هو ملاحظ أن الملفات المعروضة على الحكومة والبرلمان والأحزاب مازالت متعثرة جراء اصطدامها بالقوة التقليدية ذات النظرة الدونية للمرأة.. كما أن البنى المؤسسية كمراكز التدريب والتأهيل ومراكز رعاية الأمومة والطفولة والدور الثقافية والفنية والرياضية النسوية مازالت أقل من الحد الأدنى الذي يتناسب ومعدل (53 %) الذي تشغله النساء من إجمالي سكان اليمن. وحتى على صعيد المجتمع المدني فإن الجمعيات النسوية رغم محدوديتها العددية ونمطيتها لا تكاد إمكانياتها المادية والبشرية تلبّي شيئاً مهماً من احتياجات المجتمع النسوي. وبشكل عام فإن ذلك الواقع وإن شذّ نسبياً عن حدوده الآمنة, لكنه في النهاية يمثل جانباً من المشهد اليمني العام الذي يواجه تحديات جمة على الصعيد السياسيي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي. بل إنه تأثر بمحيطه البيئي إلى الدرجة التي نجد أن الغالبية العظمى من الناشطات اليمنيات البارزات تركن قضايا المرأة وانخرطن في العمل السياسي, وهو توجُّه في أغلبه لم يكن بدوافع ثقافية سياسية بقدر ما ترجم تدني الوعي لدى الأحزاب التي لا يمكن أن تكترث للناشطات في قضايا المرأة, وبالتالي لا يتم تسليط أضواء الإعلام على المرأة وتعظيم منزلتها إلا بعد اقتحام مضمار العمل الحزبي. ويبدو أن المرأة اليمنية أدركت في وقت مبكر حقيقة الروح الانتهازية التي تعمل بها الأحزاب والعديد من القوى الفاعلة, فأخذت على عاتقها مسؤولية معالجة أوضاعها وبناء كيانها داخل المجتمع وفرض إرادتها بكفاح مرير وصبر طويل. فنجحت فعلاً في تجاوز الكثير من التحديات واقتحام العديد من المحافل حتى سبقت مجتمع الرجال في دخول الهيئات الدولية – كما هو الحال مع السيدة أمة العليم السوسوة, فيما تبوأت السيدة رمزية الإرياني مركزاً ريادياً عربياً كأمينة عامة لاتحاد النساء العربي, وأصبحت مئات اليمنيات في صدارة قائمة الرائدات في مختلف المجالات الأكاديمية والسياسية والاقتصادية والثقافية والفنية. والأهم من ذلك هو أن تلك الريادة لم تكن بمساعدة القوى الليبرالية بل بإرادة ذاتية أولاً, ثم ثانياً بالاستثمار الأمثل للمناخ الديمقراطي والتوجّه العام للدولة اليمنية في الوقت الذي تعثر مسار المرأة في العديد من دول الإقليم التي تتمتع بإمكانيات أفضل بكثير من اليمن. اليوم ستحتفل نساء العالم بيوم المرأة العالمي, لكننا نجد أن المرأة اليمنية الأكثر استحقاقاً للاحتفاء بهذا اليوم لأنها الأكثر كفاحاً, وصبراً, ومعاناة, وتحدياً للواقع المقاوم لإرادتها, فكانت الأكثر إنجازاً والأشد بأساً في قهر الظروف وبإمكانيات ذاتية. فألف تحية لنساء اليمن في يومهن العالمي, وعلى خطى بلقيس وأروى الصليحي بإذن الله تعالى.