كان مخاض ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962م، عسيراً ومكلفاً ودامياً، ورغم ذلك نجحت الثورة في إسقاط النظام الإمامي، إلا أنها لم تنتصر عليه، وكان النصر الحقيقي للثورة عام 1970م، وفيه توطدت مداميك النظام الجمهوري، بعد الصلح العام بين “الجمهوريين والملكيين” وعلى مدى عشر سنوات بعد الثورة دفع اليمنيون الغالي والنفيس من أموالهم وأولادهم وقوداً لحروب مابعد الثورة، ولم يستطع الاقتصاد أن يتقدم خطوة واحدة للأمام، لأن الساسة مشغولون بتثبيت النظام الجمهوري، الذي يتعرض للمؤامرات واحدة بعد أخرى، وتدخلت أطراف عربية في الصراع القائم في اليمن، منها مع النظام الجمهوري، وأخرى مع الملكية، وأصبحت اليمن ساحة حرب أهلية يتقاتل فيها أبناء الوطن الواحد، تحت مظلة ورعاية دول لها أجندة وأهداف خاصة، ولا يهمها شأن اليمنيين ولا سفك دمائهم. وكانت فترة حكم السلال من أصعب الفترات وكان لشيوخ القبائل نفوذ واسع في أوائل الحكم الجمهوري، فاستطاعوا إسقاط السلال ومن بعده الإرياني، ثم الحمدي، وخلال فترة حكم هؤلاء الرؤساء كان الاقتصاد صفراً، لمحدودية موارد الدولة، والنمو بطيء جداً ولا يشكل أي نسبة تذكر، إضافة إلى التوترات بين شمال الوطن وجنوبه آنذاك التي كانت تصل في بعض الأحيان إلى مناوشات دامية على الحدود، ثم اندلعت أحداث المناطق الوسطى أواخر عهد الإرياني واستمرت إلى أوائل حكم الرئيس علي عبدالله صالح، وبرز الاغتيال السياسي على أوسع نطاق، وقتل الرئيس الحمدي وسالم ربيع علي والغشمي، ثم جاءت فترة حكم علي عبدالله صالح، الذي جاء والوطن على صفيح ساخن، وفتح ذراعيه للجميع ليساعدوه في بناء اليمن، وابتدأ في أوائل أيام حكمه الخطوات الأولى لبناء مؤسسات الدولة اليمنية الحديثة، ولكنه اصطدم بالإرث الكبير من التخلف والانتهازية والفساد والمناطقية والسلالية الذي أفرزته الأحداث التي مرت على اليمن قبل مجيئه للحكم. وتفاجأ بمدى التدخل السافر لبعض دول الجوار في شؤون اليمن، وآثر مع ذلك الوسطية وقبول الناس كلهم، وسعى سعياً حثيثاً لتحقيق مكاسب للشعب، فجاء في أوائل عهده اكتشاف النفط، وإعادة بناء سد مأرب وتأسيس المؤتمر الشعبي العام كقاعدة شعبية لجميع اليمنيين للمشاركة في الحكم وصنع القرار، واستمر في اللقاءات الوحدوية مع قيادات جنوب الوطن آنذاك، وتحققت الوحدة على يديه عام 1990م، ورفع علم الوحدة اليمنية من مدينة عدن، ومع ذلك كان للوحدة آثار سلبية على الاقتصاد الوطني، لكن الساسة آثروا الجوع على الفرقة والتمزق. وبعد الوحدة كانت عودة المغتربين اليمنيين من دول الخليج الذين قاربوا المليوني مغترب، ومانتج عن ذلك من كلفة باهظة ومؤلمة على الاقتصاد، ومع ذلك استطاع الوطن ولو يسيراً التعافي من هذه النكبة، ولكن المتربصين بالوطن لم يهدأ لهم بال حتى فجّروا حرب الانفصال التي أكلت الأخضر واليابس من موارد الدولة، وانتصرت الشرعية بقيادة علي عبدالله صالح على دعاة الانفصال، وعادت لحُمة الوطن الواحد، واستمرت مناوشات مابعد الحرب حتى سنة 1997م. وفي هذه السنة وبعد هدوء الأوضاع نسبياً استطاعت القيادة السياسية الاتجاه للوطن وبنائه ومع ذلك لم تهدأ الدول المناوئة لليمن، وحرّضت عملاءها ساعةً باختطاف سفير وأخرى سائح وجاء ترسيم الحدود مع السعودية وعُمان لينهي عقوداً من التوترات والأزمات وفتح صفحات جديدة مع الأشقاء، ثم جاءت أيضاً مشاكل جزر حنيش والتي أخذت بعداً عالمياً، وانتهى التحكيم فيها: أنها جزر يمنية. ومرَّت أوائل سنة 2000م ومابعدها هادئة نسبياً، ثم ظهرت الأعمال التخريبية والتدميرية للإرهابيين، وماجرته من انتكاسات على الوطن واقتصاده، ثم جاءت داهية الدواهي بالتمرد الحوثي، ثم حركة المتقاعدين والمنقطعين، ليتطور عن هذه الحركة ما يسمى “الحراك الجنوبي” المطالب بالانفصال، إلى أن جاءت في أوائل عامنا هذا لعبة الفوضى الخلاقة المتدثّرة بشعارات براقة، جاعلة من الشباب المغرر بهم في الواجهة، ونتج عن ذلك مانتج، ومازال الوضع السياسي محتقناً. والسؤال الأخير: هل تركنا الرئيس علي عبدالله صالح يبني هذا الوطن بهدوء؟ إن مثل الرئيس علي عبدالله صالح والشعب كمثل صاحب الخيمة الذي يُباشر وضع الأعمدة لتستقيم الخيمة، فيبدأ بوضع الأعمدة واحداً بعد آخر، وحين وصل إلى النصف جاءت رياح عاتية، ولكن صاحب الخيمة مازال صامداً، يحاول وضع الأعمدة الأخرى، والرياح تشتد وصاحب الخيمة مازال واقفاً، فتهدأ العاصفة فيبادر سريعاً إلى وضع الأعمدة الأخيرة، ثم تهب الرياح من جديد، ثم تهدأ فيباشر وضع العمود الأخير، وأثناء ذلك تأتي الرياح أكثر ضراوة من ذي قبل، لكن صاحب الخيمة ينجح في تركيب العمود الأخير، فيلتفت إلى إحدى زوايا الخيمة فيرى جملةً كتبت بخط جميل تقول:” الإصرار غلب التيار”.