لم أشهد منذ عشرين عاماً يوم حداد في اليمن, فقلّما نكّس اليمنيون علمهم الوطني كما سيفعلون اليوم الذي أعلنه رئيس الجمهورية يوم حزن على شهداء الديمقراطية الذين سقطوا يوم الجمعة برصاص الغدر والفتنة, فكانت فاجعة الوطن بأبنائه الأبرار التي أدمت القلوب حزناً. اليمنيون يحزنون وخلف الصدور ألف سبب وسبب ليواصلوا حزنهم لأيام وأسابيع أخرى, وربما لشهور, فلم يعد أمرهم كما يريدون, فقد تكالبت عليهم الهموم, وأمسوا قلقين على كل شيء, فلماذا لا يحزنون ورياح الفتنة تعصف باليمن الحبيب وتلقي به تحت رحمة المقامرين المتسلقين على دماء الأبرياء الذين لم يعرفهم اليمنيون إلا وهم ينهبون قوتهم, ويعبثون بأمنهم, ويتاجرون بأرواحهم في أسواق السلاح, ويصنعون أزماتهم في شوارع التخريب؟!. لماذا لا يحزن اليمنيون وقد استحالت وحدتهم التي قدموا لها قوافل الشهداء رهاناً بخساً على طاولات قمار الحانات اللندنية وفي مزادات المقرات الحزبية, فيما الغافلون يصفقون ويعمّدون بالدماء المشاريع الانفصالية؟!. لماذا لا يحزن اليمنيون وقد غاب الأمن والأمان, وصار البلاطجة يملأون الشوارع ويخطفون منها نبض الحياة, ويفعلون ما يشاؤون باسم الديمقراطية والحرية, وكل يشتم ويلعن صاحبه حتى تفشّى وباء الكراهية وتأججت الأضغان في الصدور, وانهمك الفرقاء يعدّون قوائم الأعداء والخصوم بانتظار الانهيار لينقضّوا على بعضهم.. فيما الصبيان المراهقون منهمكون بتقاسم أي العمارات أو المحلات سينهبون قبل أن تطالها أيدي القبائل؟!. لماذا لا يحزن اليمنيون وجامعات أبنائهم قد أغلقت الأبواب إلى أجل غير مسمى, والمدارس مباحة للأحزاب, والكل يراهن على حشد تلاميذها في الشوارع – ولو بقوة الصميل – وحتى مدارس الفتيات صارت تقاد كما القطيع إلى الشوارع ومخيمات الاعتصام, فيما مشائخ الدين يقولون: «الضرورة تبيح المحظور»!! وكل شيء في اليمن أصبح مباحاً, حتى بيتك مباح للمعتصمين أو المتظاهرين, ولا يهم إن كانوا مع الحاكم أو معارضين؟!. لماذا لا يحزن اليمنيون ومنابر الإعلام تفجّر كل يوم معارك, وكل يكذب على الآخر, ويشتم الآخر, وكل يتقرّب إلى الله بإشعال الفتن وشحن النفوس بالأحقاد, حتى ضاع على المواطن المسكين من يقف مع الوطن ومن هو ضده.. من هو الصادق ومن المفتري.. فغرق الجميع بالقلق والهموم والخوف من المجهول!!. ألف سبب وسبب للحزن في اليمن اليوم, فالحزبية المقيتة وصراع الكراسي والمصالح تخطف كل شيء جميل في حياة اليمنيين, حتى الأعراف والتقاليد بات هناك من يطحنها ويبدلها بفوضى الديمقراطية التي لا يجني منها اليمنيون اليوم غير ضنك العيش, والأزمات الاقتصادية, وثقافة الكراهية. فكل الشعارات التي رددوها في الشوارع والمجالس والمهرجانات الحزبية زادت الفقير فقراً, والثري ثراء, والفاسد فساداً.. فلماذا إذن لا يحزنون وقد أصبحت أحلامهم ومستقبل أجيالهم تضارب بها القوى الانتهازية في أسواق السياسة؟!. إن هذا التحزّب المفرط, والترويج الإعلامي الزائف, والتعبئة الحبلي بنزعات الانتقام, كلها تنذر بحزن طويل في اليمن قد لا تدرك نهايته أعمارنا طالما هوس الفوضى يجتاح قرانا ومدننا, وطالما حين سقط أبناؤنا شهداء يخضبون الأرض بدمائهم الزكية لم نسأل أنفسنا: من المستفيد من قتلهم, من كان يريد جعل دمائهم إعلاناً ترويجياً ونصراً مجانياً على خصومه؟! فقد غلب الناس الجهل فسقطوا في ضلالة منابر التضليل التي تحترف فن دغدغة القلوب ولا تجرؤ إطلاقاً على المجادلة بمنطق العقول. احزنوا أيها اليمنيون على الشهداء الأبرار اليوم, ومازال هناك ألف سبب وسبب لتواصلوا حزنكم حتى يشاء الله لكم أمراً يرد به كيد الكائدين إلى نحورهم. تغمّد الله شهداءنا بواسع رحمته.. “إنا لله وإنا إليه راجعون”.