لست بحاجة إلى القول إن جيلي كان يحلم بالديمقراطية وحرية الرأي وحرية التعبير، لكننا لم نكن ندرك أن الحرية ستتحول إلى تخريب وتدمير بسبب غياب الجهات المختصة، وإذا بنا اليوم أمام واقع يعكس حجم الفوضى وغياب القانون.. لقد تابعت جريمة القتل التي حدثت للأطباء الألمان والكورية في صعدة وقضية الرهائن الذين مازالوا في علم الغيب حتى الآن وتابعت قضية اختطاف رجل الأعمال «الخامري» وتابعت جريمة القتل البشعة في حبيل جبر وما تلاها من اعتداء على مركز السلطة المحلية بمدينة زنجبار بمحافظة أبين. لقد تألمت لضياع حياة الإنسان التي تختطف بهذه البساطة وهذه السهولة وبهذه الوحشية.. والسؤال الذي يلح عليّ بشكل كبير هو : ما هي هذه الدوافع التي تكمن خلف قتل كل انسان؟ ماذا يحدث في مجتمعنا، ولماذا هذا التراجع في القيم والأخلاق والانحدار نحو البربرية؟. والحقيقة التي اصطدم بها دوماً هي غياب الجهات المختصة، فالله يحب الجميع وليس له عداء مع أحد، وشمسه تشرق على الأشرار والصالحين، وأمطاره تنزل على الأبرار والظالمين. قبل أن تكون ديمقراطية في اليمن كانت الممنوعات كثيرة، وبعد قيام الديمقراطية أصبحت المباحات هي التي تدمر حياتنا وتدمر الاستقرار والسلم الاجتماعي، فهذا خطيب الجامع أتاحت له الديمقراطية الحديث بحرية فراح من على منبره يشتم الحزب الحاكم لأنه عرّى المرأة وأدخلها الأندية الرياضية، وراح يصب لعنات الله على كل من دخلت مجال الرياضة النسوية وعلى أبيها وأمها؟!. وهذا شيخ القبيلة يبيح لنفسه الوقوف في وجه القانون ويمنع العدالة من أن تأخذ مجراها وينتصر للقاتل على حساب القتيل. وهذا المتنفذ يمنع أساتذة جامعة صنعاء من الاستفادة من الأرض التابعة للجامعة ويبيح لنفسه أن تكون ملكاً له لتعيش هذه الشريحة دون سكن. وهذا القبيلي يحمل بندقيته ويمنع أعضاء اتحاد الأدباء والكتاب في صنعاء من الاستفادة من الأرض التي منحتها لهم الدولة. وهذا رئيس الجامعة أباح لنفسه منع أساتذة الجامعة من الحصول على أجهزة الكمبيوتر التي منحت بتوجيهات من رئيس الجمهورية في 2006م وإلى اليوم لم تصل. وهذا الذي يبيح لنفسه الحديث باسم الشعب ونيابة عنه ويعلن الانفصال أو الفوضى دون معرفة رأي الشعب صاحب الحق الأساسي في أن يقول رأيه في ذلك. وهذا المواطن العادي الذي أباح لنفسه إما وضع مطبات مصطنعة في الشوارع الرئيسية أو الفرعية دون اعتبار لسلامة الطريق. وهذا المجلس المحلي الذي يؤجر الخيام للأعراس وزرعها في الشوارع من أجل أن يعتلف الناس القات ويقطعون مرور السيارات في هذا الشارع أو ذاك دون اعتبار لهذه الزحمة الخانقة التي كادت توقف الحركة في أمانة العاصمة. وهذا الموظف في هذه المؤسسة أو تلك يبيح لنفسه أن يكمل لك اجراءات معاملتك أو لا يكملها. وهذا مدير قسم الشرطة يبيح لنفسه أن يسجل بلاغك أو لا يسجله؛ كل ذلك يجري خارج نطاق القانون وخارج نطاق الدستور. والسؤال الذي يطرح نفسه: من المسئول عن تطبيق القانون وتطبيق الدستور؟. إن المشهد يطول وتتعدد تفاصيله وتتنوع عناصره، وكل ما يمكن قوله بدلاً من الحديث عن المنجزات علينا أن نتكلم عن هذه السلطات المتعددة والمنفلتة والتي لا تحتكم لا لدستور ولا لقانون وإنما تحتكم لفكر الاستقواء وتسعى إلى تعزيزه. إننا أمام بعض من يزعمون أنهم مسئولون وهم يرفضون المساءلة، وأمام بعض من يسمون أنفسهم مشائخ قبائل وهم قطّاع طرق وخاطفون ومقلقون للأمن. وأمام من يسمون أنفسهم دعاة إلى دين الله وخطباء المساجد وهم مجموعة من إرهابي الصوت ومحرفين للدين وكلهم يطيحون بالقانون والأخلاق والأعراف والمعايير وحدود الالتزام الفكري والمهني والوطني وتصنيع وطن بديل لا مكان فيه للقانون ولا للدولة. رهوط من الذين يحسبون أنفسهم على النظام وهم ليسوا سوى مزايدين ومخربين ولم يتركوا لنا شيئاً نقوله عن المعارضة التي من أهدافها اقتناص أخطاء الحاكم ونشرها وتوسيع دائرتها. هناك من يروّع الناس في الطرقات إما بقطعها ونهب المارة فيها كما هو حاصل في بعض المحافظات.. وهناك من يروع المواطنين في عواصم المدن الرئيسية وفي شوارعها؛ حينما يمر هؤلاء لابد أن يفسح المواطنون لهم الطريق، ولم أجد مبرراً حتى الآن أو سبباً يقنعني لماذا يجب على المواطنين أن يفسحوا الطريق لهذا الشيخ أو ذاك المسؤول؟!. إن حديثي لا ينصب على الممنوعات التي يكثر منها الصحافيون في بلادنا وهي قليلة، ولكنه ينصب على المباحات التي لا يتحدث عنها صحافيو بلادي وهي كثيرة وقاتلة ومدمرة. إن ممارسة المباحات بهذه الكيفية وبهذا الشكل لا يوجد له مثيل في أي بلد آخر، سواء كان متقدماً أم متأخراً. ما أريد أن أقوله هو أننا نستخدم المباحات بشكل خاطئ، وهذه ظاهرة يمنية بامتياز، وهي لا تعني سوى الاستقواء على الناس دافعي الضرائب ودافعي المعونات والمرتبات لأولئك الذين يصادرون حقهم في الأمن والاستقرار. زجاج السيارات بات معتماً وهي تجوب شوارع العاصمة وبعض عواصم المدن الرئيسية بالرغم من أن قانون المرور يمنع مثل هذه العاكسات لما لذلك من خطورة يمكن أن يستخدمها البعض للتحايل على الأمن وتنفيذ أعمال تخريبية. أقول مرة أخرى إن السائد هو منطق الاستقواء وصناعة سلطات خاصة على حساب السلطة المركزية، لذلك نحن بحاجة إلى المحافظة على هيبة الدستور والقانون. يستحق الثناء رجل يستحق الثناء هو العميد محمد معياد، مدير أمن أمانة العاصمة السابق، يستحق كل الشكر والتقدير لما يقدمه لأساتذة جامعة صنعاء من دعم والوقوف إلى جانبهم في مواجهة أزمة الكهرباء والماء لكي يوفر لهم الوقت حتى يتمكنوا من انجاز أبحاثهم العلمية، وهو رجل مثقف صاحب فكر وطني يحمل بين جوانحه كل هموم الوطن ويمتلك رؤية ثاقبة في تحليل الأحداث.