نتحدث عن فكرة المشروع المدني نظرياً في فضاء من المثالية بعيداً عن موضعته في السياق اليمني جغرافياً وتاريخياً واجتماعياً، وأكاد أتفهم أن المشروع المدني بدأ حلماً مثالياً يراود اليمنيين منذ منتصف القرن العشرين في عدن على الأقل ، وهكذا تكون البدايات نظرية وهي الخطوة الأولى نحو بلورة الحلم وتجسيده في سياقات موضوعية تأخذ بالاعتبار كل المتداخلات المحلية. ومثلما كان حلم الاشتراكية كصورة ونموذج من نماذج الحداثة، فكرة مثالية اصطدمت بالمركب الاجتماعي والديني والثقافي والتاريخي، فإن المشروع المدني بصورته الليبرالية يحتاج إلى التفطن إلى المعطيات القائمة خاصة بعد أن استهلكت حقبة الصراع الشرقي الغربي قواميسها وبددت طاقات الشعوب الباحثة عن حاجاتها وأولوياتها وهويتها وصيرورتها التاريخية المستقلة. الشباب اليوم يحملون مشروعاً مدنياً ليس بالضرورة استنساخ للنموذج الغربي بقدر ما هو بحث عن معنى يحقق المشاركة الشعبية الفاعلة والتعبير العادل عن رغبات الشعوب وعن أولوياتها وحاجاتها. والشباب اليمني لا يعوزهم الوعي التام بمشروعهم ولا بأحلامهم وأولوياتهم، لكن التعاطي مع الفكرة المجردة خارج العوامل المحلية المؤثرة فيها سلباً وإيجاباً مسألة تستحق أن تكون محل نقاش موضوعي. ذلك أن القوى التقليدية ظلت تشكل عائقاً رئيسياً أمام المشروع المدني منذ إرهاصات العمل المدني في عدن والثورة الدستورية عام 1948 في صنعاء. تلك القوى التقليدية ممثلة في مثلث: القبيلة، التطرف الديني، مجموعة التحالف مع المصالح الاستعمارية والخارجية. واليوم وبعد خمسة عقود من الثورة والاستقلال أصبحت هذه القوى ثلاثية القوة: تملك السلطة والمال والسلاح، الأمر الذي صار من الصعب، بعد ضرب الحزب الاشتراكي ومؤسساته والقوى التقدمية، النهوض بمشروع مدني خارج استحواذ تلك القوى عليه. والمشروع المدني ليس فكرة بسيطة يمكن لتلك القوى هضمها بسهولة أو المناورة بها، بل إن المشروع المدني مسألة تفكيك جذري لتلك المنظومة التقليدية التي تحكمت بقيم الثورة والديمقراطية والتنمية وكيفتها لصالح بنائها الذاتي الذي لا يقبل الفكرة المدنية. والآن وبعد التداخل الكبير والتصالح الطويل الذي تم بين النظام وبين تلك القوى لأسباب تتعلق بمنطق الصراع بين قوى الحداثة والقوى التقليدية المضادة لها ، أصبح المشروع المدني أمام موانع ثقافية وفكرية وأيديولوجية ومصلحية تشكلت واستقوت على قوى الحداثة والتقدم ، وصار فعل الشباب الذي يريد إعادة الاعتبار للحلم بالمشروع المدني في اليمن بين كماشتي الفكرة الحالمة وتوظيف القوى التقليدية لها مؤقتاً لتصفية حسابات تتعلق بموازين القوى وتقاطع المصالح مع النظام الذي وفر لتلك القوى تعبيراً مؤسسياً ديمقراطياً نسبياً يسوغ ديمومتها وتعزيز تحالفها المصلحي. وأصبحت ساحات الاعتصام في صنعاء نموذجاً لهيمنة القوى التقليدية على المشروع المدني الذي أصبح عملياً حبيس أوراق بعض الشباب المدني التقدمي وبعض الأكاديميين المساندين لهم. هناك تحالف يهيمن على ساحة الاعتصام في صنعاء تعزز بالانضمام العسكري الذي أضافه جناح الإخوان في بعض وحدات الجيش ليصبح الشباب في قبضة تجار السلاح، والحروب، والدين ، والسياسة والمخدرات، وفي قبضة الرغبة الانقلابية على الديمقراطية التي رعت مصالح تلك القوى التقليدية وحاولت تحديث شكلها فقط. أصبح الفضاء المتاح للمشروع المدني محدوداً في ساحة أحاطت بها مليشيات شبابية تقليدية دينية مؤدلجة ومنظمة ومتعصبة وهي تضع أدوات عنفها الاحتياطي غير بعيد عن الساحة ، بل إن منظومتها الفكرية تحمل عنفها في داخلها واستعدادها للصراع العنيف والدفاع عن مشاريعها السلفية والعشائرية والحزبية والتجارية. وبذلك صار الرهان على المشروع المدني عبر أدوات وقوى تصنع نقيضه وتصطدم مع حيثياته ضرباً من المجازفة وضرباً من غض الطرف عن أعدائه ومناوئيه ،خاصة حين نضحي بمؤسسات الدولة والمؤسسات المدنية والديمقراطية القائمة مقابل بديل مجهول تحمله بدائل انقلابية عسكرية تقليدية سترمي بالشباب المدني خارج ساحات الانقلاب. [email protected]