في كل أنحاء العالم حينما يحتاج الإنسان للمعرفة يتجه إلى القراءة؛ فالقراءة هي النافذة الحقيقية لمعرفة كل ما يحدث في واقع الحياة، وبواسطة القراءة يستطيع الإنسان استشراف المستقبل، لكن هذه الحقيقة لا تنطبق على واقعنا اليمني هذه الأيام، حيث لا يزال قادة أزمات البلاد متقلبين، أو متحجرين، لا يسمحون بقراءة صحيحة كيفما كان طعمها، ولا يتيحون فرصة للتوقعات المستقبلية مهما كان لونها، ولذلك أحجم الشعب اليمني عن القراءة هذه الأيام، وصارت أمنيته الوحيدة أن يسمح له أصحاب القوة بأن يحلم بالأمن والاستقرار.. ولأن القراءة صارت حلماً في واقعنا تعالوا نكمل حكاية القراءة في الدنمرك، في كوبنهاجن الشعب يستمتع بالقراءة، ويعد القراءة حقاً من حقوق المواطنة، ولذلك نُشرت المكتبات لتكون في متناول الجميع ..ومن المكتبات التي زرتها في كوبنهاجن المكتبة العامة، وهي مكتبة عامة بمعنى الكلمة؛ تضم ملايين من الكتب المتنوعة التي ترضي جميع الأذواق وتلبي احتياجات جميع الأعمار من الولادة إلى آخر العمر، مكتبة تقدم خدماتها المجانية لكل شرائح المجتمع ببطاقات الانتساب، الجديد في هذه المكتبة خدمة الإعارة إلى المنازل بواسطة موظفي المكتبة، فما على المواطن إلا الاتصال تلفونياً أو إرسال إيميل إلى موقع المكتبة بأسماء الكتب التي يريد قراءتها مهما كان عددها، وسيجدها عنده بعد ساعة إلى ساعتين بدون أن يدفع أجرة التاكسي، أو (يلاحق موظفي المكتبة من دور إلى دور حتى ينقطع نفسه) هناك تذهب الكتب إلى بيت الراغب في القراءة، ثم يأتي موظف المكتبة لاستلامها في موعد انتهاء الإعارة، الذي يمتد من أسبوع إلى شهر، ويمكن للمواطن الراغب في القراءة أن يطلب كتباً أخرى يصطحبها له الموظف عند زيارته لاستعادة الكتب الأولى، ولا شك أن مثل هذه الخدمة تجعل الجميع يرغبون في القراءة حتى الذين لا يجيدون القراءة سيتعلمونها ليستمتعوا بهذا الحق.. أجمل ركن في المكتبة العامة في كوبنهاجن هو القسم المخصص للأطفال بأعمارهم المختلفة، ما اندهشت منه هو وجود مكتبة للأطفال من عمر سنة إلى سنتين، نعم ابن سنة منتسب للمكتبة.. ففي هذه المكتبة مساحة واسعة مملوءة بكتب الأطفال الملونة في كل العلوم الطبيعية والإنسانية وبخاصة قصص الأطفال الخيالية، كما تحتوي مكتبة الأطفال على قسم للأفلام والقصص المصورة وشاشات لعرض الأفلام والصور وأجهزة لممارسة العزف الموسيقي وأدوات لممارسة الرسم والمسرح وطاولات القراءة والمشاهدة، والجميل في ركن الأطفال وجود طاولات تحيط بها الكراسي الصغيرة لجلوس الأطفال يتوسطها كرسي كبير للأم أو المربية، الطفل يجلس ليستطلع الكتاب أو يشاهد أو يستمع أو يرسم أو يعزف، والأم أو المربية تراقبه، أو تقرأ للطفل، أو توجه استطلاعه، أو ترعاه أثناء تواجده في المكتبة، فإذا شعر الطفل بالجوع أو النوم؛ ففي مكتبته أماكن لأكل الطفل ونومه إن أراد .. المبهج في الأمر أن لدى الطفل ابن السنة والسنتين بطاقة مكتبية تؤكد أنه مواطن منتسب للمكتبة، وتعطيه الحق في الحصول على خدماتها، ويقوم ولي الأمر بإبراز البطاقة عند حضور الطفل ورغبته في الحصول على خدمات المكتبة. في المكتبة العامة أيضاً أماكن مخصصة لذوي الاحتياجات الخاصة من المكفوفين والمقعدين وغيرهم، حتى طلبة المدارس والجامعات لديهم أماكن خاصة بهم للقراءة والاستذكار، بل وفي ركنهم معلمون من الاختصاصات المختلفة يساعدونهم في فهم المنهج الدراسي إن أرادوا، ويجيبون عن أسئلتهم العلمية، يعني أن المكتبة مجهزة لتحقيق هدف القراءة للجميع بدون استثناء في المكتبة العامة خارطة إرشادية إلكترونية تم وضعها عند بوابة المكتبة يظهر من خلالها الكراسي المشغولة برواد المكتبة، والأماكن الشاغرة التي يستطيع الزائر التوجه للجلوس فيها، بمعنى أن نظام المكتبة حريص على توفير الوقت والجهد لقضائه في الاطلاع وليس في البحث عن المكان أو الموظف أو الكتاب كما يحدث في مكتباتنا. كنت كلما رأيت شيئاً جديداً أو لمحت سلوكاً متميزاً في هذه المدينة التي مصادر الثروة فيها محدودة جداً، صرت أكثر قناعة بأننا لا نستحق هذا الوطن، وأن علينا أن نعيد حساباتنا مع وطننا، الذي أرهقناه بفسادنا وبشعاراتنا وقت السلم، وبخلافاتنا وقت الأزمة، فمتى يأتي اليوم الذي نحب فيه وطننا اليمن؟!!!.. (*) أستاذ المناهج المشارك بكلية التربية جامعة صنعاء [email protected]