سيظل حديث الرحيل موضوعاً للجدل, وربما المراوغة, مادام اقتصر على زاوية الرؤية التي لاترى إلا مفهوم الرحيل سبيلاً لتطور الدولة والمجتمع. وبالرغم من الأهمية القصوى للتغيير والإصلاح السياسي, فإن هناك إصلاحاً لايقل أهمية, وهو الإصلاح الاجتماعي. نحتاج للبحث عن مرشد لترتيب أولويات الإصلاح, فثمة لغط كبير يجعل من هذه العملية- ترتيب الأولويات- منطقة مهجورة في ساحة نداءات وصرخات الإصلاح ذات النبرة السياسية, والتي ترى الإصلاح وقفاً على تغيير الحكم دون المحكومين. وهي طريقة تفكير تعكس النظر إلى الشعوب ككيانات منزهة من الجهل والعصبية والأمية المعرفية والديمقراطية وأنها أصبحت راشدة. ولست بحاجة للقول إن صنعاء تعيش اليوم ظرفاً أشبه بعام 1948م, حين كان أهل صنعاء يعانون من خطر«الجن» في الليل وخطر القبائل في النهار. إننا اليوم أمام رومانسية مفرطة تنطلق من ساحات الاعتصامات ومن تصريحات قيادات أحزاب المعارضة تزعم أن القبيلة تركت سلاحها وانضمت إلى ركب الدولة المدنية وكأن هؤلاء لم يقرأوا التاريخ اليمني وحركات الانفصال التي كانت تواجه الدولة المركزية, حيث كانت تبدأ من شيخ قبيلة قوي يبحث له عن إمام لكي يشكل له مرجعية دينية فيعلن خروجه على الإمام الآخر. وهكذا تشكلت الدويلات اليمنية عبر تاريخها, وفي الحالات التي كانت إحدى القبائل تجد أنها تتميز بدرجة عالية من العصبية أو التكاتف, تبدأ هذه القبائل بفرض نفوذها, ومن ثم توسع سيطرتها ثم تتحول إلى أسرة حاكمة. وعندما قامت ثورة سبتمبر اختطت لنفسها سياسة إرضاء العشائر وكسب ودها ثم العمل على تعزيز دور وهيبة شيوخ القبائل من خلال تأسيس “نظام شئون القبائل”،وهو نظام قانوني استمر حتى يومنا هذا, حيث يعطي القبائل, ومن خلال شيوخها, سلطة قضائية وعقابية في حسم المنازعات والدعاوى بين أفرادها. وبما أن المنادين اليوم بإسقاط النظام يسعون إلى تدمير أسس الدولة القائمة, فهم يتعاملون مع الوضع السياسي والاجتماعي من زاوية أحادية متصلة بمصالحهم لابخصوصية الشعب اليمني ومكوناته الأساسية, ودور القبيلة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية التي تسود, من حيث نفوذها وتأثيرها المباشر حوالي 70 في المئة من مساحات اليمن ، وهي التجمعات السكانية خارج مراكز المدن في القرى والريف. وبالإضافة إلى تراكم المشاكل التي ستستجد في الحياة الأمنية, خاصة إذا ماتم الانهيار المفاجئ للنظام وتصفية مقومات الأمن الوطني المتمثلة بالقوات المسلحة وقوى الأمن. إن التساؤل الوطني الراهن يقود إلى معرفة الدور القادم لنشاط المجلس الوطني الذي أسسه حسين الأحمر من المشايخ. إن منطق الحكم والسلطة لايتقبل وجود عدد من مرجعيات النفوذ والقوة, إذ يصعب لاحقاً إعادة تلك التجمعات المسلحة إلى وضعها السابق, وستكون معادلة المجلس الوطني كقوة عشائرية مسلحة أصبح لها نفوذها ودورها مقابل عدد من التوازنات الأخرى, في مقدمتها ميليشيات الحوثيين وغيرها, معادلة صعبة وقلقة. وفي بيان اللقاء الوطني الذي يرأسه حميد الأحمر, وهو البيان الذي كشف عن تحالف غير معلن بين مرجعيات دينية وقيادات قبلية ونخب ليبرالية ومثقفة تمثلت باللقاء المشترك وبعض منظمات المجتمع المدني تشكل بداية لنفق طويل مظلم من الغيبوبة على سرير الدولة المدنية المزعومة. إن هذا التشجيع من قبل أحزاب اللقاء المشترك لحشد عامل العصبية يبقى تشجيعاً غير محسوب ومن دون حصر نتائجه الراهنة والمستقبلية. فأما تداعياته, فإنها ستعود على الوحدة الوطنية والديمقراطية وستكون بالتالي تهديداً مباشراً للدولة المدنية ومصدراً لاستمرار النزاعات بأي شكل من الأشكال, حرباً أهلية أو غير ذلك, إذا لم يُعد تأطيرها اجتماعياً ووطنياً وفي إطار المصالحة والتسامح بشكل عام. إن المطالبة بإسقاط النظام بدون الاحتكام للشعب ستؤدي إلى تدمير جميع مقومات الدولة وعناصر قوتها وستبدأ صفحة جديدة من برنامج إشاعة الفوضى في هذا البلد. فهل تعي قوى التحديث في البلد أن ذلك يُعد اغتصاباً جديداً لمفهوم الديمقراطية, ومواصلة لعملية تقسيم وتفتيت المجتمع اليمني. كنت أتمنى من المثقفين والمفكرين في ساحات الاعتصامات بوصفهم مهمومين ببناء الدولة الحديثة أن يعملوا استبياناً لمعرفة عدد المتعلمين في هذه الساحات وعدد الرجال والنساء الذين لايجيدون القراءة والكتابة. ولاشك أن الأرقام التي سيحصلون عليها سوف تشير إلى أزمة حقيقية تتمثل بنسبة الأمية المرتفعة ، وكذلك في المخرجات السلبية للعملية التعليمية والتي تمثلت في ضخ موجات من المتخرجين ضعاف التأهيل, وهؤلاء لايتوقف دورهم السلبي على أداء متدنٍ في المواقع التي يلتحقون للعمل بها, بل الأخطر أنهم يشكلون بداية دائرة مدمرة عندما يتحولون بحكم مواقعهم إلى معلمين ومدربين لأجيال جديدة تليهم, فالمعلم السيئ ينتج طلاباً أسوأ, والطبيب الجاهل يقتل الناس بسرعة أو ببطء تبعاً لتخصصه وملابسات عمله. والقاضي الذي انضم إلى هذه الساحات فقد شرف مهنته ، إذ أصبح متحيزاً ولايصلح أن يكون قاضياً في المستقبل ، لأنه تحول إلى سياسي ، ومثله رجل الدين والطبيب والإعلامي الذي خرج على قواعد المهنية وتحيز لطرف على حساب طرف آخر. هذه البدايات الرديئة تظل تتفاعل حتى تدور الدوائر على المجتمعات ككل, وتتفشى القيم السلبية في العمل والسلوك. فالديمقراطية المنشودة, بأي مواصفات كانت لايمكن أن ينهض بها مجتمع الأغلبية فيه من الأميين, والمتعلمون فيه أكثرهم لم يحصلوا إلا على قشور من المعرفة السطحية, وأثقال من مناهج التلقين والامتثال الفكري. هؤلاء وأولئك لايمكن أن ينجزوا إصلاحاً حقيقياً. إن الولادة العنيفة لأي نظام سياسي تطرح ثمارها المغالية في العنف, وتنقلب على ذاتها, وتأكل أبناءها. إن النهضة تقوم عبر الحوار السلمي وتحقيق التوازن الأفضل بين الاعتبارات المتعارضة. علينا أن نؤسس لمستقبلنا ومستقبل أطفالنا تحت مظلة الحوار الذي يشمل المجتمع بأسره بكل شرائحه وفئاته المختلفة. [email protected]