حاولت أن أتصور أن الزمن قد دار بأسوأ دورة، وأن واحداً من زعانف السياسة الذين طفوا على السطح في الأحداث الجسيمة التي تمر بها البلاد فيما سمي ب«الثورة» قد صار - ولا سمح الله - رئيساً للبلاد. كيف سيكون الحال بعد علي عبدالله صالح الذي عُرف بحبه لشعبه وبتسامحه مع الجميع؟ فوجدتني في حالة هذا التصور، أحس بالدوار وبالضيق الشديد، لم أجد نافذة فرج ولا صفاء كدر. فرأيت أناساً في السجون بأعداد مهولة، وعلى المقاصل والمشانق، وخارج أسوار الوطن، ومبعدين عن الوظائف، ورأيت لحىً طويلة ووجوهاً عليها لاصقة خالية من نور الإيمان، تدير شأن الأمة وتتربع على عرش الوطن الذي خلا، إلا منهم. وسمعت خطباءهم يقولون: قال الله.. ولكنهم بالملموس يعملون بما يقول الشيطان.. رأيتهم كما قد سبق، يجبون الأموال من الداخل والخارج وعبر منظمات وجمعيات، وأيديهم ممدودة لا تنعطف، ويزعمون أنهم يساعدون بها الفقراء والمساكين وهم يوزعونها على الأغنياء منهم. فرأيت الفقراء يبكون بحرقة، وأولادهم يتضورون جوعاً، حتى يرغمون على موالاتهم وأعوانهم، فيضطرون لذلك دون قناعة، وتحت قهر الحاجة للموالاة، ولكن ذلك قسراً سيحدث تحولاً هائلاً وتبركناً شديداً في لحظة انفراج قادمة. ورأيت أن ديكتاتورية حمقى تحل محل الديمقراطية التي ألفناها، وأن الصحف قد صودرت وأوقفت إلا ما كانت تسبح بحمد الحاكم يومها - ولا قدر الله - أن يعود الأمر إلى هذا الحد، ولكن ذلك ما رأيته بعين التصور المخيف، واضحاً لا غبار عليه، عندها وجدتني أصرخ: خلاص، خلاص، كفى هذه الصور البشعة. وعدت للنظر مدققاً إلى ما نحن عليه، فوجدت الوظيفة العامة للجميع، ولعل المستأثرين بها هم المعارضة أكثر بكثير من الحزب الحاكم، أقصد ما دون الوزراء، ونظرت إلى حرية الرأي فلم أجد لها مثيلاً في طول وعرض الوطن العربي، وإلى حد يتجاوز المعقول. ونظرت إلى السجون فلم أجد سجين رأي، ولا ممن يسيء إلى السلطة والوطن، وإن كان القانون يعاقب على ذلك كما لا يقره شرع سماوي أو إنساني، لكنه تسامح القائد رعاه الله.. وتأملت في المتناقضات بين من يحكم اليوم وبين من يريد أن يحكم الغد.. حكم اليوم.. اتجه نحو البناء للجامعات والمدارس. وذاك الحاكم الحالم بحكم الغد أوقف التعليم، وحطم المدارس والجامعات. حاكم اليوم.. شق الطرقات وربط اليمن كلها على امتداد مساحتها بشبكة واحدة، وأمن الناس في المدينة والقرية. وذاك يقطع الطرقات ويخيف السبيل ويفصل القرية عن الأخرى. وحاكم اليوم.. عمل على تطوير الكهرباء وارتفعت الأبراج في كل اليمن، وأضاء المدن، والقرية على حد سواء. وذاك ضرب أبراج الكهرباء وعطل محطات التوليد، ونشر الظلام الذي يخرج من أعماق نفسه، فأظلمت المدن والقرى، وعطل حركة الحياة. وأعادنا إلى القرون الوسطى إن لم أقل، أبعد من ذلك. حاكم اليوم.. أسال الغاز وما خلا منه بيت على امتداد اليمن، ليحافظ على جمال الطبيعة لليمن الأخضر. وذاك قطع إمداد الغاز ليعيد الناس للاحتطاب ونزع الخضرة والجمال من جبال وسهول اليمن. حاكم اليوم.. بنى مؤسسات كبيرة، وأشاد صروح البناء. وذاك خربها وانهال عليها ضرباً وسلباً. حاكم اليوم.. بنى جيشاً للدفاع عن الوطن. وذاك بنى جيشاً لهدم هذا الوطن. حاكم اليوم.. بنى مؤسسة أمن. وذاك يبني مؤسسة خوف. حاكم اليوم قال: الوظيفة العامة للعامة. وذاك قال: الوظيفة العامة للخاصة. بعد هذا لم أستطع المزيد من التصور والمقارنات، فوجدتني أصرخ من الداخل بحرقة: قف أيها الزمن لا تدور هذه الدورة المشئومة، وتواري أيتها الوجوه الملغومة.. والقلوب المكلومة، ولتظهر أيها الوجه اليماني الرائع، والقلب الأبيض والمشاعر التي تنبض بالحب لليمن أرضاً وإنساناً وإننا معك، حتى نهاية المسار، مهما علا سعار مكفوفي البصيرة والأبصار. معك يا باني نهضة اليمن وفارسها المغوار، معك أيها الزعيم القائد الصالح علي عبدالله، فيك خلاصة خبرة الأزمنة، وأنت راسم خارطة الأمكنة، نعرفك وتعرف أنت كل السهول والجبال والشطآن، وكل الأذواء والأقيال، وصنوف الرجال. أزحت عن الوجوه الزائفة أقنعة الزيف، فظهرت كما هي، وجوه جعدتها عوامل الحقد والكراهية للأرض والإنسان، تدور مع الغسق لا تتنسم بارداً، ولا يمر بعينها شيء من ألق، منها نعوذ برب الفلق. حاولت هذه الوجوه والقلوب الصماء قتلك أيها الزعيم فقُتلت هي عند أول بوابة من بوابات الشعب العظيم.. حاولت إحراقك ورفاقك بصواريخ حرارتها تصهر الحديد، فكانت عليك ورفاقك برداً وسلاماً، فخرجت منها كطائر الفينيق ينفض عن جسمه الرماد، أراد لك الله الحياة فماتوا بغيضهم. أعطاك الله الحكم فأرادوا أن يغالبوا غالباً، وأن يمنعوا عطاءً منحك الله إياه، فقبض عنهم العطاء، كلما أوقدوا نار الفتنة أطفأها الله. حاولوا، لكنهم يفشلون، ويفشلون، ولكنهم لا يتعظون. قالوا إنهم علماء، فتأكد الناس من قولهم، فلم يجدوا إلا أنهم عملاء. اعتقد الناس أنك ستخرج من كبوة مرضك منتقماً فخرجت متسامحاً.. دعوتهم للحوار فأقاموا على قاعدة التمحور، دعوتهم لصدق القول فأقاموا جسوراً للكذب، عليه يعبرون ويقتاتون من نتنه، ويصبحون ويمسون، وما رأينا لهم صباحاً، ولكن نقول ذلك مجازاً. وزعت عليهم روائح الفل والعطر فوزعوا على الناس روائح البارود. أسمعتهم قول الحق بخطاب رائع فأسمعوا الناس لعلعة الرصاص. فرشت لهم على الأرض في فنا دارهم أو دواوينهم سجادًا أخضر ففرشوا الأرض ألغاماً أحالت لون التراب أحمر. قلت لهم تعالوا إلى كلمة سواء ففروا اتباعاً للهوى. التجأت إلى كتاب الله كحكم فالتجأوا إلى الشارع. أحسنت الخطاب فأغلظوا الخطاب. وقفت على الحق لكنهم جانبوا الصواب فوقفوا مع الباطل. بسط الله على الأرض النعمة فأحالوها إلى نقمة. فهل للمتدبر بعد هذا من كلمة؟! هناك كلمة للواقفين في خط الوسط، يلعبون مع الفريقين نقول: الزموا فريقاً واحداً، ولا تجعلوا الأوهام تسيطر عليكم أكثر، خذلتم المسار الشرعي وفتحتم باب الاشتهاء لمن لا شرعية له، فمن وهمكم توهموا أن يرتقوا سلم المجد. لكن هذا السلم بكم وبهم سوف يتحطم وقد تحطم. رجال كنت لا أعرفهم حقيقة كانوا يظهرون في المناسبات والمحافل وبعض اللقاءات، لكن كنت أعرفهم وجوهاً وما أكثر الوجوه ..! ولكن أنا وغيري اليوم عرفناهم قلوباً أصفى من اللبن ومواقف أثبت من الجبال الراسخة، وصدقاً لا لبس فيه، ووضوحاً لا تغليف أو ضباب يشوبه، يقفون بعيداً عن المنطقة الرمادية، بل في المناطق البيضاء، نجد ما يختزنون في قلوبهم يطلع من أفواههم شجاعة بالحق، لا يذلون أمام الباطل، ولا ينحنون أمام العواصف. هؤلاء عرفتهم وعرفت بهم الأزمة المعاشة، وأظهرت وفاءهم النادر .. والأزمات فعلاً هي التي تخرج أو تكشف معادن الرجال؛ منهم الحكيم نائب الرئيس عبد ربه منصور هادي ، والدكتور أحمد بن دغر، الأمين العام المساعد للمؤتمر الشعبي العام، والأستاذ عارف الزوكا، وزير الشباب والرياضة. للشهداء الأحياء لكل الذين استشهدوا في محرقة جامع النهدين: سلام وألف سلام، وقد منحهم الله السلام؛ إذ أخرجهم من محرقة كان المفترض فيها ألا يبقى أحد على قيد الحياة، لكن مشيئة الله كانت أعظم من كيد الكائدين فأحالت النار عليهم سلاماً. أنتم أيها الرجال بكم يعتز اليمن أرضاً وإنساناً، وبكم سيفتخر التاريخ، إنكم بذلتم الأرواح جماعية في سبيل نصرة الوطن وقضاياه، وإنكم العرى التي لم يستطع أي من المرجفين والحاقدين أن يفككها، ولا أن ينال منها. فبورك جمعكم وبورك فيكم العزم والثبات والقوة والإرادة التي هي من إرادة الله. للذين قضوا أنتم الشهداء في الفردوس الأعلى، اختصكم الله بالقرب منه، وكانت هي الحسنى التي قل من يصل إليها في زمن يتسابق الأدعياء على المغانم والعرض الزائل، فطوبى لكم فأنتم عند ربكم ترزقون؛ لأنكم قد نلتم شرف الشهادة، وهي أعظم المراتب في دار الخلد.. سلام عليكم وألف سلام. للشيخ البركاني ستظل أنت - كما عرفك الجميع - صوتاً يصدح بالحق وقلباً نابضاً بالحياة، تنافح عن قضية الوطن بصوت جهور وقلب طهور. للمعارضة الحمقاء إنكم تشرّعون اليوم لغد ستعمه الفوضى والعبث والسفه وترسون قواعد لفتنة كقطع الليل المظلم. إنكم بما تحدثون اليوم من خراب ودمار تؤسسون لمجتمع عبثي قادم، من صنعكم أنكم تبذرون بذور الدمار، فهل تنتظرون من بذرة الدمار أن تنبت شجرة محبة وسلام؟ إنكم اليوم تزرعون ولن تحصدوا إلا ثمرة ما زرعتم وليس غير ذلك. أنتم اليوم تفرشون شوكاً أمام السائرين، فهل تحلمون أن يفرش الناس لكم الورد إن حكمتم؟ لعمري إن هذا لشيء عجاب، إنكم والله لا تنظرون إلا إلى أنفسكم، ولهذا فإن الشعب غائب عنكم وعن تفكيركم به وبمصالحه، ولذا فإنه سيغيبكم، ولن يكون لكم لديه أو عنده حضور، والقادم من الزمان حامل بما هو أعظم مما تصنعون اليوم إذا لم يدرككم الصحو.