الأسبوع الماضي تشرفتُ بزيارة سلطنة عُمان الشقيقة ضمن وفود إعلامية من مختلف الدول العربية والأجنبية، بدعوة كريمة من وزارة الإعلام العمانية لتغطية الدورة السابعة لانتخابات مجلس الشورى .. وبما أن الإنسان يعجزُ عن وصف مشاعره وانطباعاته حيال ما رآه من تطوّر مُذهل ونهضة شاملة في مختلف مناحي الحياة سواءً من حيث البنيةُ الأساسية المتواصلة، أو من خلال التعامل الراقي الذي يمتاز به الأشقاء العُمانيون بمختلف فئاتهم العمرية، إلاّ أني سأركز في هذه التناولة على التطور المُتسارع في التنمية الديمقراطية التي تسيرُ بخطىً ثابتةٍ ومدروسة حتى يتحقق المرادُ والغايةُ من استخدامها كوسيلة للتنافس الديمقراطي وصولاً إلى تكريسها كمفهوم ثقافي يُلبّي طموحات الشعب العُماني ويعود عليه بالخير الوفير في تنميته وتطوّره واستقراره .. فباعتقادي أن الديمقراطية في سلطنة عُمان تمتازُ عن غيرها من الديمقراطيات الناشئة في المنطقة والإقليم بمميزات كثيرة، كونها اعتمدت منذ انطلاق دورتها الأولى عام 1993 م على مبدأ التدرُّج في بنيانها بعد توطيد أركانها من خلال الاهتمام بالتنمية البشرية وبناء الإنسان بناءً صحيحاً باعتباره الثروة الحقيقية للبلد، بعيداً عن المجازفة والقفز على الواقع كي لا تنحرف عن مسارها الصحيح، وحتى تترسخ مفاهيمُها عند الناس وتكتمل الرؤية التي من شأنها الوصولُ إلى مرحلة النضج فتسهُل ممارستها وتؤتي أكلها على أكمل وجه .. والمتابعُ للشأن العُماني يلحظُ أن كلَّ دورة انتخابية تتميز بشكل كبير عن سابقاتها كون الحكومة العمانية وعلى رأسها جلالة السلطان قابوس بن سعيد تقوم بإدخال تعديلات على النظام الانتخابي بصورة مدروسة بعناية فائقة تراعي متطلبات المرحلة وقبل ذلك طبيعة المجتمع وتكوينه الثقافي وأيضاً عاداته وتقاليده ومصالحه، الأمر الذي يساهم بجعله مجتمعاً متماسكاً لا يمكنُ اختراقُه أو التأثير عليه بأي شكلٍ من الأشكال وهو ما اتضح جلياً في الوعي الكبير بأهمية إنجاح الانتخابات من قبل الجميع وازدادت الصورة بهاءً من خلال التنافس الكبير بين المرشحين واحترامهم لخيارات الناخبين لاسيما وقد بلغ عددهم 1134 مرشحاً بينهم 77 امرأة تنافسوا على 84 مقعداً، واللافت أن 61 وجهاً جديداً دخلوا المجلس لأول مرة بنسبة تفوق 75 % من إجمالي عدد الأعضاء .. فكلُّ من حضرَ من وسائلِ الإعلام العربية والدولية وجميعهم مدراء تحرير ومراسلون بارزون للمشاركة في تغطية انتخابات الدورة السابعة أشادوا بنجاحها سواءً كان ذلك من حيث الإعدادُ أو التنظيمُ أو التنافسُ بين المرشحين أم مدى إقبال الناخبين على ممارسة حقهم والإدلاء بأصواتهم حيث بلغت نسبة المشاركة 76 % من إجمالي عدد المسجلين، إضافة وهو الأهم مدى وعي المواطن في اختيار من يمثله على أساس الكفاءة والمؤهلات التي يحملها المرشحون، وكل ذلك يعكس مدى الرقي والتقدم الذي وصل إليه المواطن العُماني من خلال حرصه على ممارسة حقه الانتخابي لاختيار من يمثله في مجلس الشورى، وتحميله الثقة في إيصالِ صوته إلى الجهات المُختصة بما يحفظُ حقوقه ويضمنُ مستقبلاً زاهراً للأجيال المتعاقبة ويصونُ الهوية الوطنية والبنية الاجتماعية للبلد، وما يؤكد ذلك الوعي هو أنه لم تُسجّلْ حادثةٌ سلبيةٌ واحدة في جميع المراكز الانتخابية على مستوى ولايات السلطنة الإحدى والستين، فقد سارت العملية الانتخابية بسلاسة ويسر وتنظيم قلَّ نظيرُه في عمليات مشابهة.. أمّا أبرزُ النجاحات وأكثرُها أهمية هو إصدارُ مرسوم سُلطاني بعد إعلان النتائج بثلاثة أيام منح فيه جلالة السلطان قابوس بن سعيد المجلس صلاحيات واسعة لم تكن موجودة في الدورات الست السابقة ومن أبرز تلك الصلاحيات : اقتراح القوانين على الحكومة ومناقشة القوانين التي تحيلها الحكومة وتعديلها، وإبداء الرأي في مشروعات خطط التنمية والميزانية السنوية للدولة والاتفاقيات الاقتصادية والاجتماعية التي تعتزم الحكومة إبرامها، وكذلك منح مجلس الشورى المنتخب صلاحية انتخاب رئيسه وطلب استجواب الوزراء من 15 عضواً على الأقل وإعطاء رأي بعد الاستجواب، كما نصت الصلاحيات على تشكيل لجنة عليا تتمتع بالاستقلالية والحيادية برئاسة أحد نواب رئيس المحكمة العليا للإشراف على انتخابات مجلس الشورى والفصل في الطعون الانتخابية بعد أن كانت وزارة الداخلية هي من يقوم بتلك المهام .. وكل ذلك لا شك يأتي في إطار التدرج الذي دائماً ما ترتكز عليه سياسات السلطنة حتى تصبح الديمقراطية ثقافة مجتمعية إيجابية وتشكّلُ رافداً سياسياً واقتصادياً وأمنياً وثقافياً واجتماعياً للبلد وليس عبئاً ثقيلاً عليها كما يجري في عددٍ من البلدان الأخرى التي قفزت على واقعها وتحوّلت الديمقراطية فيها إلى وبالٍ وأداةٍ للهدم والصراع والتنافر، بعيداً عن التنافس الذي يخدم المجتمع ويساهم في بنائه وتطوّره، وقد قُوبلت تلك الصلاحياتُ بارتياحٍ واسعٍ من جميع أبناء الشعب العُماني الذي رسم صورة لا تُنسى في ذاكرة كل من خالطه وتعرَّفَ عن قُربٍ على خصاله الحميدة وتواضعه الجم ونضجه بأهمية دوره تجاه وطنه في البناء والتنمية والازدهار، فمباركٌ لشعب عُمان الشقيق هذا النجاح والتميز الذي يضيفه إلى أرصدة إنجازاته المستمرة وأمنياتنا بالتوفيق والنجاح لمشاريعه المستقبلية ..