المتأمل بعمق في أحداث الوطن العربي يكتشف بسهولة مدى التناسق والتناغم والمحاكاة بين تلك الأحداث؛ بل التوافق الكبير في نتائجها الأساسية منها والثانوية، وربما تحدّث كثيرون عن أجندات ومخططات أجنبية، أو ربما كواليس داخلية تصنع الحدث وتروج له وفق رغباتها الخاصة. لكن في الحقيقة - ومن وجهة نظري - أن انتشار هذه الأحداث وبهذه السرعة وعلى تلك الوتيرة المفزعة يدعو إلى الوقوف أمام قوة عظيمة لا يمكن أن تمتلكها دول مهما كانت عظمتها وبراعة أجهزتها الاستخبارية وتمكنها من زرع طابورها الخامس في تربة الشعوب المجاورة لها أو المجاورة لمصالحها!. وإذاً فهذه الرياح التي أتت بما لا تشتهي سفن الحكومات لم تأتِ من الغرب أو الشمال أو الجنوب لتستقر في الشرق بل كانت قادمة من لدن حكيمٍ عليم ومن فوق سبع سماواتٍ. نعم فالأمر أكبر من الأنظمة وأخطر من شعوب تبحث عن الحرية، إذ نجد أن لكل نظام محاسن وسيئات أضحى الثوار اليوم أنفسهم يتغنون بها، مما يدعونا إلى التساؤل من جديد: لماذا ثار هؤلاء إذاً، أو لماذا يثور أولئك أيضاً؟! في البحرين والكويت والسعودية اليوم ظهرت إصابات بمرض الثورة، طيب، ما الذي ينقص السعوديين ليثوروا؟!. نظام جائر، فقر مدقع، حرية مفقودة... ماذا.. ما الذي يدفع هذه الشعوب للمطالبة برحيل أنظمتها؟!. لا شك أن الأمر لا يخلو من جور وظلم وإجحاف؛ وهذا بمفرده سحق أمماً من قبل وسيسحق أمماً من بعد، لكن بهذا النهج وعلى هذه الشاكلة فهذا شيء من عمل السماء وليس للأرض فيه أي شأن، إنها بداية لمرحلة تاريخية جديدة بكل ما فيها، وربما كانت هي فتنة آخر الزمان التي تحدّث عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، نسأل الله أن يقبضنا إليه غير مفتونين. إن هذه الأحداث تشبه في انتشارها وشيوعها تلك الأمراض القاتلة التي حصدت الملايين من البشر خلال حقب تاريخية معينة مضت ولم يبق لها أثر، إذاً فالأمر لا يقف عند حد الإرادات الشعبية ولن يتوقف عند حد الأنظمة العصية على السقوط، إنه أوسع وأشمل من ذلك بكثير. في اعتقادي أن نزول رسائل سماوية مدعمة بالحجج والبينات ينطق بها أنبياء ورسل، كل ذلك كان فرصة ذهبية للبشر بأن يعرفوا طريق الحق ويجتنبوا طريق الخطأ، ولما كانت فطرة الإنسان حيوانية ورغباته في التملك والتكاثر والبقاء شرهة حاد عن طريق الصواب وتجبّر في الأرض وعلى واستكبر وأخذته غفلته إلى الاعتقاد بالخلود ونسيان أو إنكار وجود الجنة والنار. بلاد المسلمين مجتمعة خاضت مع الخائضين في معترك الحضارة المستوردة من مجتمعات بليدة، حضارة أفرزت فضلاتها على الأجساد، ولقحت حواس الناس بالرغبة والإثارة والبحث عن متعة الإشباع غير المشروط بخلق أو دين، حضارة سطحية بلا قيم ولا مثل، حولت الإنسان من كائن حي بعقيدته إلى كائن حي بغريزته، أضعفت المسلمين، وعلمتهم التسويف وشغلتهم عن الغاية التي من أجلها خلقوا: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات“56”. إذاً فهذه النار التي اندلعت في هشيم الشعوب لم تكن بإرادة الشعوب نفسها وليست رغماً عن الأنظمة وإن لم تملك تلك الأنظمة سبيلاً لإطفائها، وإنما هي نار أشعل فتيلها قدر محتوم، كان أمره كن فكان وسيكون، ولهذا لن يستطيع المحللون والساسة والمراقبون أن يجيبوا عن كثير من الأسئلة أو يصدقوا في الكثير من الاستنتاجات، بل إنني أكاد أجزم أن رقعة الثورات ستتوسع خلال العام القادم إلى أقصى مداها حتى تشهد الأمة تغيرات جذرية آن أوانها اليوم تحديداً. ولكن ولأننا نؤمن أن رحمة الله وسعت كل شيء في السماوات والأرض فنحن على ثقة أنه تعالى سيرحمنا بدعوة ضعيف أو رجاء مسكين أو ابتهالات ثكلى ليس لها فيما يحدث ناقة ولا جمل. «اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقومٍ فتنة أن تقبضنا إليك غير مفتونين، برحمتك يا أرحم الراحمين»، من أدعيته صلى الله عليه وسلم في أوقات الفتن.