بئست الثقافة ثقافة “العشوائية” ونِعمَ المجتمع مجتمع النظام، وأكرم بمستقبل شعاره الأمانة في القول والعمل والظاهر والباطن، مستمداً تعاليمه من روح الإسلام الحنيف. إن كلمة “العشوائية” كلمة يمنية بامتياز، اخترعها بعض ممن نبت على ظهر هذه البلدة الطيبة وتجسّدت في شرايينهم، ولا يبيتون إلا وقد رأوا مستقبلهم يطفح بهذه الثقافة الصدئة. ومادام الأمر كذلك فإن “العشوائية” كلمة مركبة من أربعة مقاطع كما يقول علماء اللسانيات كدلالة على تقطّع أوصالها في مجتمعنا اليمني، وانتشار هذه الأوصال في ربوع هذا الوطن، كل وصلة منها تفرّخ وصلات حتى تدخل كل مرفق من المرافق المجتمعية في الريف والحضر. وفي هذا المقام لا نستطيع الإحاطة بكل هذه الأوصال، وإنما سنركز على أهمها، وهي أنك لا تجد طريقاً عاماً إلا وأصابتها سهام “العشوائية” وما أنابيب المياه والصرف الصحي عنها ببعيدة، وما ازدحام حركة المرور وغياب التخطيط في خطوط السير عنّا ببعيد أيضاً. كما أنك لا تجد سوقاً إلا وقد نشبت “العشوائية” فيه أظفارها، ولا مؤسسة صحفية أو تعليمية إلا وقد ولغت هذه الثقافة فيها، ولا شركة تجارية إلا وهزّت هذه الثقافة أركانها، ولا تجد عملاً خيرياً وإن كان أفضل الأعمال إلا وقنصته يد هذه الثقافة، وما بناء المساجد في أماكن متقاربة، وانعدام هذا البناء في أماكن أخرى وخاصة في الأرياف عنها ببعيد. كما أن المتنزّهات أصبحت مسرحاً للعشوائية تحرّكها كيفما تريد، وعامل النظافة فيها يحاول بكل ما يستطيع من قوة تنظيفها إلا أن هناك من كان طبعه غلب تطبّعه؛ لا تهمه راحة الآخرين والصورة الحضارية التي ينبغي أن تكون، وهناك أمور أخرى نتركها للقارئ الكريم، وما ذلك إلا غيض من فيض. إذا كان هذا الداء العضال موجوداً في مجتمعنا اليمني، بدايته كانت بسيطة في أحد الأعضاء لكن كان الدواء رديئاً حتى توسع وتوسع بدءاً من الأطراف ودخولاً إلى الجذع حتى وصل إلى مركز التحكم الإنساني وهو العقل البشري؛ فتوقف متسائلاً: هل أنا على صواب أم خطأ، هل طريقي معبّدة أم ممتلئة بالأشواك، هل أقف هنا أم أواصل السير؟!.. فأتى العلاج الفعال وأتت الإجابة عن هذه الأسئلة مباشرة بالتوجّه نحو الحاكم الفعلي المسمّى ب«مجتمع النظام». مجتمع النظام هو الذي سيقلب المعادلة ويحوّل ثقافة “العشوائية” إلى ثقافة الاستخلاف القائل عنها الله سبحانه وتعالى: “وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك” ويكون قريناً للقانون في المبيت أو السفر في الحل أو الترحال، في الضوء أو الظلام. مجتمع النظام هو من استشعر قوله تعالى: «إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً». اليمن الجديد بحاجة ماسة إلى التخطيط السليم وترتيب أنفسنا قبل أن يرتّبنا الآخرون، وبحاجة إلى أن نحرّك ضمائرنا في سيرنا قبل أن يحرّكنا رجل المرور، وبحاجة إلى عقول نيرة تميز بين الغث والسمين والصواب من الخطأ، وقبل أن تبني لابد أن تعرف خطة البناء وفائدته للمجتمع. إن مجتمع النظام هو مجتمع غلّب الجانب الإنساني المجتمعي على الجانب الذاتي الانفرادي، هو الذي انفتح قلبه للآخرين قبل نفسه، هو الذي جعل الآخرين يشيرون إليه ببنان الخير وإرادة الإصلاح قبل أن يثنى على منجزاته، هو من أيد فكرة “إن خير من استأجرت القوي الأمين”. مجتمع النظام بحاجة إلى تذكُّر سير المرسلين والعظماء والصالحين من عهد آدم وحتى عصر الصحابة والتابعين لينظر كيف بنوا هذه الأرض خير بناء، وكيف ظلت أرواحهم معلقة في قلوب الناس لفضائلهم النيرة ونصائحهم الصادقة النابعة من التواصي بالحق والتواصي بالصبر؛ متمثلاً قول الشاعر: وما نيل المطالب بالتمنّي ولكن تؤخذ الدنيا غلابا [email protected]