(الاهداء: الى ذكرى الدكتوره أروى أحمد ناجي النبهاني رحمها الله) مدخل: قدم جيمس بتراس تحليلا يزاوج بين التحليل الطبقي وأفكار التبعية ، لدراسة أوضاع البلاد المتخلفة ، في مرحلة مابعد الاستقلال ، أو ما يعتبره بتراس انتقالا من مرحلة السيطرة الاستعمارية المباشرة إلى مرحلة الاستعمار الجديد. وطبقا لهذا التحليل فإن الاستقلال القومي ، وتكوين الدولة القومية في مرحلة الاستعمار الجديد شهدا خلق فئات اجتماعية تقع بين الرأسمالية الإمبريالية، وبين القوى العاملة. هذه الفئات الاجتماعية ، التي انبثقت عن مصادر متعددة مثل الحركات السياسية ، والجامعات والقوات المسلحة ، وجهاز الخدمة المدنية تمثل الجماعات غير المالكة ، والوسيطة ، التي تجد جذورها في بيروقراطية الدولة ، والتي وجدت طريقها للإمساك بقوى الدولة ، بما في ذلك إيراداتها ونفقاتها. ثم انتقل بتراس ليوضح أن هناك عددا من الاستراتيجيات التي تتاح أمام الفئات القومية الوسيطة في بلدان المحيط ، وهي خيارات تتوقف في جانب كبير منها على انماط التحالفات الطبقية (المحلية والدولية) وكذلك على القوة التساومية للطبقات داخل التحالفات. وعلى ذلك، يمكن للنظام القومي التالي للاستقلال أن يختارعلى الأقل بين ثلاث استراتيجيات أوأنماط من التحالفات الطبقية لتحقيق التراكم الرأسمالي، وهو ما يؤثر بالتالي على توزيع الدخل. ويقسم بتراس هذه الاستراتيجيات إلى ثلاث: أولها: ما يسميه نموذج الاستعمار الجديد ويعتمد على التراكم من أعلى ، ومن الخارج ، أي بالتعاون بين المؤسسات الإمبريالية والطبقات المحلية السائدة ، لاستغلال القوى العاملة بالداخل، ويؤدي هذا النمط إلى تركز الدخل في أيدي الرأسمال الأجنبي. وثانيها: النموذج التنموي البرجوازي القومي الذي يعتمد في التنمية على الرأسمالية الوطنية أو الدولة ، ويحد من الفائض المتجه نحو المؤسسات الإمبريالية ، ويؤدي إلى تركيز الدخل بين أيدي الفئات الوسيطة التي تأخذ شكل النخب الحاكمة في المحيط. وثالثها: الاستراتيجية القومية الشعبية، والتي تقوم على التحالف بين الفئات الوسطى وبين القوى العاملة ، وتوسيع دائرة السيطرة القومية عن طريق التأميم وتؤدي إلى توسيع القاعدة الاجتماعية لتوزيع الدخل. ومن الواضح ان النظام في الجمهورية العربية اليمنية الذي تكون بقيام ثورة 26 سبتمبر 1962 قد اختار في مرحلته الاولى من 1962 وحتى 1978 النمودج الثاني البورجوازي القومي بتأثير مباشر من الناصرية في السنوات الخمس الاولى ثم بالقصور الذاتي فيما تلاها حتى العام 78. ليتحول بعد ذلك الى النموذج الاول نموذج الاستعمار الجديد حتى قيام الجمهورية اليمنية بالوحدة عام 1990، ثم ليستمر نفس النموذج بعد الوحدة وحتى يوم الناس هذا. أما في الجنوب ما بعد الاستقلال 1967، فقد اختار النظام النموج الثالث القومي الشعبي واستمر عليه حتى الوحدة عام 1990 ليتحول بعدها الى نموذج الاستعمارالجديد وليستمر حتى اليوم. أرقام كاشفة: في العام 1961 وقبل قيام الثورة في الشطر الشمالي بعام صدَّر اليمن الى الخارج ما قيمته (2.667.000) جنيه إسترليني واستورد ما قيمته (2.263.000) جنيه إسترليني، وكان هناك فائض لصالح اليمن مقداره (404.000) جنيه إسترليني. وكانت صادرات اليمن مكونة من البن %49 والقطن %18.5 والجلود %8.3 وسلع أخرى %23.9 (راجع ص248 - الحياة الاقتصادية في اليمن الحديث - أ.أحمد سعيد الدهي). أما في العام 2003 فقد بلغت واردات اليمن ما قيمته (674) مليار ريال، منها (159) ملياراً قيمة أغذية وحيوانات حية، و(178) مليار ريال سيارات و(100) مليار ريال ديزل. بينما صدر اليمن ما قيمته أكثر قليلاً من (66) مليار ريال من الصادرات السلعية والزراعية والسمكية والمصنعة، كان نصيب السلع المصنعة منها أقل من 9 مليارات ريال أو بنسبة %1.5 من إجمالي الصادرات. أما أكبر الصادرات فقد كان النفط (618.5) مليار ريال وبنسبة %90 من إجمالي الصادرات (راجع الاقتصاد اليمني المأزوم- أ.محمد أحمد حيدر ص.138). وتظهر لنا هذه الأرقام أن الاقتصاد اليمني البدائي كان متوازناً بالرغم من التخلف في العهد الملكي، لأن اليمني كان يأكل مما يزرع ويلبس مما يصنع وكان لديه فائض للتصدير. أما في هذه الأيام فقد ابتلي اليمني بمن أخذ الثروة النفطية التي حظي بها فلم يستثمرها في بناء اقتصاد متوازن، وإنما استخرجها من آبار النفط ليرميها في البلاعات ومقالب القمامة، وساحات الخردة و(التشليح) والبنوك الاجنبية. وقد استفادت رأسمالية يمنية طفيلية من الثروة النفطية تستورد القليل مما ينفع ويفيد، والكثير مما لا ينفع، وتحقق الأرباح العالية لصالحها ولصالح شركائها التجاريين في الخارج. فامتصت ثروات البلاد وأهدرتها وستكون المسؤولية عن كل ما سيقع فيه كل مواطن من مصاعب خطيرة قادمة، عندما ينضب النفط فتصبح البلاد مكشوفة، وغير قادرة على توفير أبسط احتياجات المواطنين. ويتصاعد جشع هذه الرأسمالية الطفيلية بوتائر عالية وتفرض أسعارا احتكارية غير مبررة لكثير من السلع، وخاصة ما يصنعه ويستورده التجار الكبار، أو بالأحرى الطفيليون الكبار. وعلى سبيل المثال فإنه بين العام 1998 والعام 2008 ارتفع سعر تنكة السمن %200 وعلبة الزبادي %150 وتضاعفت الزيادات منذ العام 2011، وقد كان سعر كيس القمح قد ارتفع بنسبة %600 وكيس الدقيق %500 وكيس الأرز 500% عام 2009 عقب الازمة المصرفية العالمية وماتلاها ثم تراجعت الاسعار لتعود الى الارتفاع منذ 2011. وبالمقارنة مع ما لا يستورده المستغلون أو يصنعونه، فقد ارتفع سعر الخضار بنسبة %50 في نفس الفترة، وكذلك لم يرتفع سعر الفواكه إلا %50 أو أقل، وصحيح أن أسعار القمح ارتفعت عالمياً، ولكن بنسبة %200، والأرز %300 فقط، وليس بهذه النسب التي يفرضونها. (انظر أسعار 1998 الاقتصاد المأزوم ص46). وإضافة إلى ذلك كله، وعلى الرغم من فداحة وهول أرقام الاستيراد التي تقوم بها هذه الرأسمالية الطفيلية، فإن إسهامها الضريبي لا يشكل إلا نسبة ضئيلة من الضرائب التي تدفع للدولة، بل إن معظم الضرائب تأتي مما يخصم من رواتب موظفي الدولة والقطاع الخاص. ومعلوم أن التهرب الضريبي جريمة في كل قوانين العالم. لقد رفعت الرأسمالية الوطنية الحقيقية من شأن أوطانها وشعوبها، عن طريق انخراطها في التصنيع الموجه الى التصدير والتكنولوجيا بأنواعها، بإقدام وابداع وتصميم، وبعد أن كانت منتجات اليابان والصين وكوريا وتايوان هي الأسوأ، أصبحت الأفضل مع اكتسابهم الخبرة والمعرفة وارتفعت أسعارها، ونافست منتجات الغرب المتقدم في عقر دارها، دون تهرب من دفع الضرائب.. بينما بقي رأسماليونا أسرى عقلية تاجر التجزئة في (الصندقة) ولم يتعد طموحهم المعلبات والسمن والصابون والاستيراد، فالاستيراد ثم الاستيراد، فجنوا على البلاد والعباد بعجزهم وفسادهم وإفسادهم للإدارة الحكومية بالرشوة مقابل التهرب من دفع الضرائب والعائدات، وبالاشتراك مع رموز السلطة ومتنفذيها في نهب الأموال والعقارات العامة في تحالف العجز والبشاعة والفساد. وفي ظل نموذج الاستعمار الجديد الذي اتبعته البلاد منذ الوحدة، أخذ التركيب الطبقي يتشكل وفقا لعلاقات التبعية. وحظيت الطبقات ، وأشباه الطبقات: البرجوازية ، والعمالية والفلاحية وكذلك الطبقات المتوسطة باهتمامات متفاوتة. وقد شدد فرانك مثلا، على العلاقة الوثيقة بين البرجوازية المحلية والبرجوازية العالمية، ورأى أن الطبقات الأخرى (سواء في المركز أو المحيط) تخضع لهاتين الطبقتين المتحالفتين حيث تمثل القطاعات العريضة للفلاحين البروليتاريا الحقيقية التي تتحمل العبء الأكبر في تقسيم العمل العالمي ، بالإضافة إلى البروليتاريا الحضرية، والطبقة العاملة، والعاملين من ذوي الياقات البيضاء. أما البرجوازية التابعة فليست برجوازبة حقيقية بحيث يمكن أن تقوم بدور في التنمية الاقتصادية، وفي الثورة الديمقراطية السياسية ، كما فعلت نظيرتها في الغرب او النمور الآسيوية. وإنما هي تقوم بدور أساسي في تدعيم حلقة التبعية والتخلف. ووصف فرانك هذه البرجوازية بأنها برجوازية رثة ، لا تنتج سوى تنمية رثة ، وهذه التنمية الرثة ما هي إلا حالة من التخلف المفقر الذي تسلبه التجارة الخارجية أي ميزة للتنمية الحقيقية. .......... يتبع