(الاهداء: الى ذكرى الدكتورة أروى أحمد ناجي النبهاني رحمها الله) رأسمالية يمنية قميئة ومستغلة: في المسح الصناعي الذي أجراه الجهاز المركزي للإحصاء بالتعاون مع المعونة الفنية الألمانية GTZ قبل حوالي عشرة أعوام تم إحصاء 33.291 مؤسسة صناعية وحرفية مجموع عدد عمالها 110.342 عاملاً. وقد صنفت هذه المؤسسات طبقاً لعدد العمال في كل منها، ووجد أن %58 منها، أي 26.733 مؤسسة لا توظف إلا عاملاً واحداً هو مالكها على الأرجح، وان %19 منها، أي 6.325 مؤسسة ليس فيها إلا عاملان في الواحدة، وأن %12، أي 3.995 مؤسسة ليس فيها إلا ثلاثة عمال لكل منها، وأن %6 منها، أي 1997 مؤسسة لا يزيد عدد العمال في كل منها عن أربعة، وأن %4 منها، أي 1331 مؤسسة يوظف كل منها مابين خمسة وعشرة عمال، أما المؤسسات التي يمكن تسميتها بالصناعية وهي التي صنفت بأنها كبيرة فقد كانت نسبتها %1.1 من إجمالي عدد المؤسسات، أي 364 مؤسسة، يوظف كل منها أكثر من عشرة عمال، وهي تنتج ما نسبته %69 من إجمالي الناتج الصناعي البالغ آنذاك 174 بليون ريال، وهذا الرقم الذي يمكن أن يكون قد تضاعف الآن مرتين بسبب التضخم الكبير الذي يتراوح منذ ذلك الحين بين %9 و%19 سنوياً. وقد بلغ إسهام القطاع الصناعي بأكمله %4 من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة لابد أنها قد انخفضت الى الثلث نظراً لازدياد الأهمية النسبية في الناتج للقطاع النفطي منذ ذلك الحين، بسبب الارتفاع الكبير في أسعار النفط، والذي شهد زيادة تربو على %600 على الرغم من انخفاض الإنتاج اليمني منه كل عام بنسبة تصل إلى %6 سنوياً. واظهر المسح أن المؤسسات الصناعية المصنفة بأنها «الكبيرة» والتي يبلغ عددها 364 مؤسسة توظف ما مجموعه خمسين ألف عامل وعاملة وبالتحديد 49.654 فرداً، يرجح أن عددهم قد تناقص خلال الأعوام الماضية نظراً لإغلاق أكثر من 30 مؤسسة صناعية متوسطة، وازدياد الإغراق السعودي للأسواق اليمنية ببضائع منافسة، بسبب تخفيض التعرفة الجمركية إلى أدنى حد ضمن سياسة العولمة، وهرولة حكومتنا إلى الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية على الرغم من أن اليمن مستورد صاف ولن يحقق أية فائدة من عضويته، لأن القطاع النفطي لا يخضع لقوانين المنظمة. وإذا عرفنا أن ضمن هذه المؤسسات الصناعية الكبيرة توجد مؤسسات صناعية حكومية تعمل في انتاج الاسمنت والسجائر والأدوية والأثاث المدرسي ... الخ، وان كان قد تم خصخصة وتصفية جزء كبير منها، خاصة تلك القائمة في الجنوب، فإن المؤسسات الصناعية الكبيرة التابعة للرأسمالية اليمنية لا تزيد عن عشرات من المؤسسات الصناعية، وهو ما يوضح بأجلى صورة قماءة وهزال الرأسمالية اليمنية، التي تركز كل جهدها على الاستيراد وامتصاص مداخيل البلاد عبر الأنشطة الطفيلية التي لا تضيف أية إضافة جدية إلى الناتج المحلي الإجمالي. لقد تضخمت ثروات هذه الشريحة الطفيلية بشكل كبير بسبب نشاطها التجاري الذي يمتص المداخيل أولاً بأول لصالحها ولصالح شركائها التجاريين في الخارج، الذين تروج لهم بضائعهم السخيفة، من أشربة الطاقة والقوة، إلى سيارات البورش التي يبلغ ثمن الواحدة منها عشرات الملايين، ملحقة أبلغ الضرر بمستقبل البلاد ومستقبل المواطنين لتقاعسها عن أداء دورها المفترض في نظام يعتمد الليبرالية الاقتصادية. وفي الوقت الذي تدندن فيه هذه الرأسمالية الطفيلية وبصوت عالٍ حول ضرورة تشجيع الاستثمار، نجد أن استثماراتها الجديدة ليست إلا مساهمة في نهب العقارات الحكومية التي تحصل على مساحات شاسعة منها، خاصة في الجنوب، تحت مسمى مشروعات استثمارية وهمية، تتحول في آخر المطاف الى متاجرة بهذه الأراضي بغرض تحقيق أرباح بلا مجهود، كعادتها في التطفل على الاقتصاد الوطني وامتصاص الدماء منه، والتي هي دماء المواطنين في المحصلة الأخيرة، خاصة وأن مأسسة الفساد الذي مارسته بدأب طوال العقود الماضية أتاح لها نفوذاً كبيراً مكنها من الالتفاف على القوانين، واستخدامها لصالحها بصورة غير مشروعة، تنم عن انعدام الضمير والإحساس بالمسؤولية الوطنية لدى رأسمالية عاجزة وفاسدة ومستغلة. ولا أبالغ إذا قلت ان التعمق في دراسة أوضاع وتصرفات الرأسمالية اليمنية يصيب الباحث بمزيج من مشاعر الغضب والإحباط. الرأسمالية اليمنية والدور الاجتماعي: قال عالم الاقتصاد الأمريكي الشهير جون كينيث جالبريث: (عندما يكون الأثرياء وذوو الامتيازات عديمي الكفاءة فإنهم لا يقبلون الإصلاح الكفيل بإنقاذهم، إذ أن الافتقار إلى الفطنة عائق لا شك فيه). ولهذا يقرأ المرء مقالات مكرسة للدفاع عن فسادهم، على سبيل الارتزاق والتربح، في مواجهة كل نقد يوجه إليهم. والحال أنه عندما اتهم الأخ رئيس الجمهورية السابق في إحدى خطبه بعض المواطنين بإفساد الإدارة في البلاد استنكر الكثيرون ذلك، إذ أن تفكيرهم اتجه إلى المواطن البسيط الذي يدفع الخمسمائة والألف ريال لجندي المرور، أو الموظف الصغير، تخلصاً من التعسف، أو لإنجاز معاملة دون عرقلة. ولكن غاب عنهم أن الأخ الرئيس إنما كان يقصد هذه الرأسمالية الطفيلية، التي حولت الفساد في البلاد إلى مؤسسة وطيدة الأركان وان كان هو بطبيعة الحل مؤسسة فساد وإفساد قائمة بذاتها. ولم يعد هناك فرق يذكر في السلوك الفاسد المفسد بين القديمة منها والجديدة. والمؤسسات الرأسمالية اليمنية تدين لوطنها بالكثير، فهي ما كان لها أن تزدهر لولا ما أتاحه لها المجتمع من تسهيلات وما أسبغه عليها من حماية وتشجيع، ولذلك فإن الثروة في المحصلة هي ثروة المجتمع. ولذلك فإن إساءة استعمالها، بالسعي إلى نهب عقارات الدولة وممتلكات المجتمع بالرشوة، أو بالتهرب من الضرائب بتزوير الدفاتر ورشوة الموظفين، أو تهريب الثروة لاستثمارها في الخارج وحرمان بلد فقير كاليمن منها هو جريمة بكل المقاييس. كذلك الحال في قيام هذه المؤسسات بتشجيع السفه الاستهلاكي بالاستيراد الواسع إلى درجة استيراد سيارات بورش تكلف الواحدة منها عشرات الملايين، والامتناع عن الاستثمار الإنتاجي الصناعي والزراعي لصالح الاستيراد، كل تلك جرائم في حق الوطن والمواطنين. وفي ديننا الإسلامي: المال مال الله، والناس مستخلفون فيه استخلاف اختبار وابتلاء. قال تعالى: «وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم» الأنعام: 195. ولكن يبدو أن للرأسمالية اليمنية فكرة خاطئة حول واجباتها تجاه المجتمع، ولهذا كانت تصرفاتها طوال العقود الماضية تدل على انعدام الإحساس بالمسؤولية. إسهامات هذه البرجوازية الرثة في المجال الثقافي لا تكاد تذكر، فحتى مؤسسة السعيد التي يطبل لها الكثيرون بالقول انها رائدة وعملاقة، لا يملك المرء منع ابتسامة سخرية على انجازاتها المتوهمة. كم كتاباً ساهمت مؤسسة السعيد في طبعه؟ صفر. كم مجلة ثقافية أو علمية أصدرت؟ صفر. كم مكتبة بنت واثثت وزودت بالكتب غير مكتبة المقر في تعز؟ صفر. كم طالباً ابتعث للتعليم الجامعي أو الدراسات العليا في الخارج؟ صفر. كم طالباً منحت منحة جامعية داخلية على نفقتها؟ صفر والخ..الخ. أما فعالياتها فإن اصغر نادٍ ثقافي يقوم بأفضل منها . واذا جئنا الى جائزة السعيد التي تحجب، معظم جوائزها الضئيلة التي لاتشجع أي باحث جاد، عاماً بعد عام فإنها لم تطبع اي بحث من البحوث المقدمة اليها. فيالها من رائد عملاق. البرجوازية الرثة تعتقد أنها إذا آتت الزكاة فقد برأت ذمتها من حسن التثمير ونفع المجتمع. مع أن الله تعالى قد فرض في المال حقاً غير الزكاة، كما جاء في حديث فاطمة بنت قيس عن الرسول (ص) وهو الإنفاق، لقوله تعالى: «ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق أو المغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة» البقرة: 177. فنص على كل من الزكاة والإنفاق في آية واحدة. والإنفاق هو في ما زاد عن حاجة صاحب المال مثل (مصروف سنة له ولمن يعول) دون إسراف أو تقتير. «يسألونك ماذا ينفقون قل العفو» البقرة:219. وهاهي الدكتورة أروى سنة خامسة طب لم تجد فرصة للعلاج وتوفيت بدون محاولة لأن والدها الأديب الكبير لم يجد ألف دولار تافهة يسعف بها ابنته الى الخارج. ولكن وكما لا تحسن الرأسمالية اليمنية الاستثمار فإنها لا تحسن حتى صرف الزكاة والصدقة هذا إذا كانت تنفق، فتلك الصفوف الطويلة الذليلة من البائسين لا علاقة لها بالحق والحقوق «وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم»، فهي ليست منة منهم ليستذلوا بها الناس ويهينوا كراماتهم. ويبدو أنه طال عليهم الأمد فقست قلوبهم، وصدق الله العظيم القائل: (إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) وفي اعتقادي أن الاستثمار الإنتاجي النافع قد يسد محل الإنفاق لأنه يحول المساكين إلى عاملين، والمحرومين إلى كاسبين والسائلين إلى مانحين.