تعيد المواقف الأمريكية من الثورة في اليمن إلى الأذهان حالة الارتباك والتردد التي رسمت تلك المواقف منذ اندلاع شرارة الربيع العربي في تونس العام الماضي، وتجلت الصورة وضوحاً في ثورتي مصر واليمن كما هو الحال اليوم مع الثورة في سوريا والتي تظهر أن أمريكا تتخذ مواقفها بناء على مصالحها وليس ثمة شيء آخر. نظام علي عبدالله صالح كان واحداً من تلك الأنظمة التي بنت واشنطن شراكة معها فيما يسمى «الحرب على الإرهاب», على مدى العقد الأخير من الألفية, كانت نتائج ذلك التحالف هو رعاية الاستبداد ودعم الحكام الدكتاتوريين وتجفيف منابع الديمقراطية وإسكات الأصوات الحرة المنادية بالتغيير. بعد الإطاحة بنظام صالح بفضل الثورة الشعبية التي أنتجت التسوية السياسية,والتي قضت في بنودها على إعادة هيكلة الجيش والأمن بما يضمن بناءه على أسس وطنية ومهنية بحته,وتحريره من قبضة عائلة صالح ضمن تحولات بناء الدولة الحديثة,لم تحدد واشنطن موقفها بشكل صريح من هذه النقطة بالتحديد. وتراوحت مواقف إدارة اوباما بين التأييد للرئيس المنتخب عبدربه منصور ودعم عملية التغيير,واعترى الغموض الموقف فيما يتعلق بأقارب عائلة صالح الممسكين لمقاليد وحدات الجيش والأمن,وان كان اقرب إلى حالة التأييد لبقائهم في مناصبهم. ولعل أكبر دليل على الموقف الأمريكي المنحاز لجهة بقاء أقارب صالح,هو حديث مساعد الرئيس الأمريكي نائب مستشار الأمن القومي لشؤون الأمن الداخلي ومكافحة الإرهاب، جون بيرنان، الذي زار اليمن في مارس الماضي,وأبدى فيه استياءه من الضغوط التي تمارسها بعض القيادات العسكرية المناوئة لصالح للدفع باتجاه التسريع بعملية إعادة هيكلة الجيش وإقالة أقارب صالح، خاصة نجله الأكبر قائد الحرس الجمهوري العميد أحمد، ورئيس أركان حرب قوات الأمن المركزي العميد يحيى محمد عبدالله صالح . وتحدثت مصادر حينها عن توصيات قدمتها أمريكا للرئيس هادي بممارسة ضغوط للإبقاء على هذه القيادات العسكرية التي تدير الوحدات المكلفة بمكافحة الإرهاب,ما يعكس تقديم أمريكا لمصالحها على حساب رغبة اليمنيين وحقهم في التغيير,وهو أمر ليس بجديد في السياسة الدولية,لكن الجديد أن يحدث في ظل ثورات غيرت أنظمة الحكم بينما لم تتغير مواقف الداعمين للحكام الساقطين من كراسيهم. ورغم فشل صالح في أن يكون شريكاً فاعلاً فيما يتعلق بالحرب على ما يسمى «الإرهاب»,إلا أن الإدارة الأمريكية التي أنفقت ملايين الدولارات على وحدات عسكرية مختصة بهذا المجال لم تخجل من مساندته ودعم أقاربه. وكان آخر مبلغ قدمته أمريكا لصالح قبل تنحيه 75 مليون دولار بغرض تدريب وحدة يمنية خاصة لمكافحة الإرهاب، قوامها 300 شخص,والمساعدات الأمريكية التي قدمت لليمن على مدى السنوات الأخيرة كانت تتركز في اغلبها على الجانب الأمني والعسكري للتدريب والتجهيز والدعم اللوجستي بينما المعونات الاقتصادية لا تقارن مع دولة أوروبية مثلاً كهولندا. والناظر إلى ما حققته أمريكا مقابل دعمها الكبير لكل الوحدات التي يديرها أقارب صالح والمكلفة بالحرب ضد القاعدة,لا نجد نتائج ملموسة أضعفت من قوة التنظيم وحدت من نشاطه في اليمن,بل على العكس اخذ يتوسع في مناطق بالجنوب ويضرب في أماكن أخرى بالشمال,وأصبح يسيطر على مدن كما هو الحال في أبين التي ما يزال الجيش يخوض مواجهات عنيفة مع القاعدة بعد سيطرتها في منتصف مارس من العام الماضي على بعض المدن. ولن نكشف سراً إذا قلنا إن صالح أجاد صناعة قاعدة خاصة,مع وجود عناصر متشددة موالية للقاعدة الحقيقية,بهدف ابتزاز الغرب مالياً وسياسياً,تجلى ذلك في اشتداد خناق الثورة عليه حين هدد بسيطرة القاعدة على محافظات في حال تخلى عن السلطة,وهو ما حدث بالفعل,ما يفضح العلاقة الوثيقة بينهما. وحين كان يمر بضائقة مالية ويحتاج أموالاً يطلق دفعة من عناصر القاعدة من السجون,فيما عرف بحوادث الهروب، سواء في سجني الأمن السياسي بعدن أو صنعاء,كي يتسنى له بعد ذلك إطلاق تحذيرات من خطر فرارهم على المصالح الأجنبية في البلاد,أملاً في أن تأتيه الأموال من كل مكان. وللأسف ادخرت قوات مكافحة الإرهاب والقوات الخاصة المدربة على حرب العصابات لمواجهة الثورة كما حصل أن أشرك صالح بعض أفرادها في حربه في الحصبة وصوفان, بينما كان يرفض إشراكها في حرب القاعدة في أبين أو البيضاء,وطالما أوكل الأمر إلى اليوم إلى الجيش النظامي الذي ليس متعوداً على حروب كهذه,وهو ما يفسر تأخر الحسم في أبين لأكثر من مرة,بخلاف وجود عوامل أخرى. وقد أحسن صنعاً الرئيس هادي مؤخراً حين رفض عرضاً أمريكياً بالتدخل المباشر في اليمن,مشترطاً تقديم الدعم المالي واللوجستي فقط,ذلك أن استباحة الأجواء اليمنية التي تنتهكها الطائرات الأمريكية بدون طيار بين الحين والآخر, ألقى بظلاله السلبية على حياة الناس,وسقط ضحايا كثيرون أبرياء جراء غارات على أهداف خاطئة. البرلمان بدوره أفاق متأخراً وطالب أعضاء فيه الحكومة بإبلاغ الأمريكان رفضهم المطلق للقبول بمواصلة الطيران انتهاكه للسيادة اليمنية وقصفه لمواطنين يمنيين بالدرجة الأولى بغض النظر إن كانوا ينتمون إلى القاعدة من عدمه. ينبغي أن نطوي صفحة عهد صالح في علاقتنا مع أمريكا,ونفتح صفحة أخرى عنوانها الشراكة لا التبعية,وتقوم على أساس احترام المصالح وعدم اختزالها في جانب محدد,تبدأ بتغيير قيادة قوات مكافحة الإرهاب كما يقترح القيادي الإصلاحي البارز محمد قحطان. على أن يتبع ذلك صياغة استراتيجية جديدة لمحاربة القاعدة يقتصر دور الجانب الأمريكي فيها على تقديم الدعم المالي واللوجستي,ويتولى الجانب اليمني المهمة على الأرض,ضمن أدوات أخرى تتطلب تجفيف منابعه وإشراك الشعب في محاربة هذا الفكر وقبل ذلك إرساء قيم الديمقراطية وإطلاق فضاء الحريات العامة وتحقيق التنمية الاقتصادية.