لعلّ الجميع سمع وقرأ وشاهد ماذا يريد الشعب في ثورات الربيع العربي؟ وما هي الشعارات التي رفعها والأصوات التي صدح بها في كل قطر عربي أو أجنبي؟ وربما جلّها ركزت على جوانب حسية مادية وأهملت الجوانب المعنوية النابعة من الذات، من النفس من الوجدان والأحاسيس والمشاعر، ولعل الحماس الجماهيري والنزعة الثورية هما اللذان فرضا تلك الإرادة الحسية. وهذا يجذبنا ويقودنا إلى التساؤل: هل تريد الثورات الجوانب الحسية المادية فقط وتتخلى عن الجوانب المعنوية؟ كلا.. إذا أرادت الثورات النصر والنجاح والديمومة فلابد من الترابط بين الجوانب الحسية والمعنوية، وفي هذا المقام لا نستطيع الإحاطة بها كلها، ولكن سنقتصر على فضيلة وصفة من صفات المؤمنين المعنوية تتمثل بالصدق في القول أو العمل وعدم الكذب. هذه الصفة المعنوية مهمة في حياتنا وخلق كريم ووصف حسن عظيم لا يتصف بها إلا ذو القلب السليم، ويدعونا المقام إلى التعريف بها وبالعلل التي استشرت في جسد هذا الواقع المنهك وما الدواء الفعال الذي يعمل على القضاء عليها؟ إن يمن الصدق معناه مطابقة الخبر للواقع واستواء السر مع العلانية والظاهر مع الباطن، والكشف عن معدن الإنسان وحسن سريرته وطيب سيرته، وتطهير خبث الطوية الضمير وقبح السيرة.. وهذا التعريف يجبرنا أن نرفع شعاراً ثورياً من مخزون ثورة القيم مفاده: اليمنيون يريدون بناء يمن الصدق وإسقاط الكذب. وقد يتساءل البعض لماذا يجب أن نرفع ذلك الشعار دون غيره؟ وللإجابة على هذا التساؤل نقول: اقتضت ثورة القيم أن تعري الكذاب وتفضحه وتجتث شجرة الكذب من عروقها، وترعى شجرة الصدق وتسقيها وتهتم بها كي تثمر يمناً جديداً مملوءاً بالخير والنعيم عارفاً للعلل والرذائل. إن مجتمعنا اليمني طفح بالعلل التي تحتاج إلى عمليات جراحية معقدة من قبل أشخاص عاثوا في الأرض فساداً، واتخذوا الكذب وسيلة للارتزاق والوصول إلى مبتغاهم، فتجد كاتباً يكتب دون رادع أو ضمير يرده عن كذبه وتزييفه للحقائق، وتجد آخر يصرح من على منابر الإعلام بأشياء يعرفها المجتمع بأنها كاذبة، ولكنه ذكرها تشويهاً للصدق والوقيعة بالآخر وجلباً للأموال، واستعطافاً للجماهير مثل:الكهرباء النووية والسكك الحديدية ومحاربة البطالة وأن الذي أحرق ساحة الحرية بتعز العام الماضي هم الثوار أنفسهم وأن الشهداء في المسيرات أتوا بها جثثاً جاهزة.. وغيرها كثير يعلمها الشعب اليمني، ومازال البعض يروج لها ويصدقها!! ومن جانب آخر إذا نظرنا إلى جانب العمل الوظيفي تجد أناساً اتخذوا رذيلة الكذب درعاً واقياً لتحسين صورهم ونسب الأعمال الجيدة لهم والسيئة لغيرها دون وجه حق، وإذا نظرنا إلى الأسواق نلاحظ البائع الذي يبيع سلعته بالحلف الكاذب، وإذا اتجهنا إلى الجانب الصحي وسألنا: هل معاملة الطبيب أو الدكتور للمريض في المشفى متساوية مع وجود المريض في العيادة الخاصة؟ وهل الدكاترة يتعاملون جميعهم مع المريض بطريقة واحدة؟ أم أن هناك تزييفاً للحقائق وهبراً للأموال وإجراء الفحوصات وغيرها إما أن تكون حقيقية أو وهمية غرضها إدرار الأموال وإنهاك المرضى؟ وإذا نظرنا إلى المشاريع وسألنا: هل يتم العمل في المشاريع بحق أم بكذب يُبان بعد تسليم المشاريع؟ ولا يفوتنا أن نذكر أناساً يستلمون مرتباتهم وهم لا يعملون، ناهيك عن وجود أناس يُظهرون أنفسهم في هذا الوقت بأنهم مع المواطنين ومع صالح الوطن وقد كانوا في السابق ملوثي الوطن والمواطنين بفسادهم وكذبهم وتزويرهم. ولقد وصل الكذب إلى أهم حضن تربوي وهو الأسرة، أب أو أم يربيان أولادهما على الكذب منذ صغرهم، فإذا أتى سائل أو سائلة يسأل عن الأب أو الأم يرد الطفل أو الطفلة بعدم وجودهما. ألا تحتاج تلك العلل وغيرها إلى دواء فعال وعمليات معقدة؟ بالطبع.. نعم، ولكن ما دواؤها؟ لقد سئم الشعب اليمني الوعود الكاذبة وقاعدة: اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس.. بل يحتاج إلى ثورة قيم قائمة على مطابقة القول مع الفعل أو العمل في بناء اليمن الجديد، ولن يتأتى ذلك إلا بدواء الصدق وإسقاط الكذب، هذا الدواء يتم تناوله في البيت مع الأسرة وفي المدرسة وفي الوظيفة العامة وعند تنفيذ المشاريع مخلوطاً بالإخلاص وحل المشاكل أولاً فأولاً والتعامل مع أهالي شهداء الثورة اليمنية وجرحاها ومعتقليها بصدق، والبحث عن الموقوفين قسرياً والمصادرة رواتبهم سواء كانوا مدنيين أم عسكريين والصدق مع من عرفت ومع من لم تعرف، وعدم تخوين الآخرين، والبدء بحوار صادق وجاد. إن بناء يمن الصدق لابد أن يكون مستشعراً أمر ونهي الرسول صلى الله عليه وسلم كما جاء عند النجاري ومسلم: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، ولايزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، ولايزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً». [email protected]