• “مجلس القضاء الأعلى يقر شهر ذي الحجة إجازة قضائية ”، لعل أول ما يتبادر إلى الذهن بعد قراءة هذا الخبر، هو أن العاملين في السلك القضائي مرهقون من العمل المتواصل لإنجاز قضايا الناس ومن حقهم أخذ راحة لشهر أو شهرين أو حتى ثلاثة بعد كل تلك الجهود المضنية التي بذلوها للبت في القضايا الكثيرة التي تعج بها المحاكم، ويجب أن لا نستكثر عليهم إجازة هي بالنسبة إليهم استراحة محارب سيعودون بعدها أكثر حيوية ونشاطاً لإنجاز ما تبقى من القضايا، لكن الواقع المر يقول إن هناك أرتالاً من القضايا لم تتحرك قيد أنملة، وزيارة واحدة إلى المحاكم كفيلة بالكشف عن الكم المهول من القضايا المتراكمة، نسبة كبيرة منها لاتزال عالقة منذ سنوات ولم تجد طريقها إلى الحل رغم أنها لا تستدعي كل هذا التأخير والتطويل في أمد التقاضي. • كُنا ننتظر من القضاء أن يكون قدوة لغيره من أجهزة الدولة ويبادر إلى الاستغناء عن إجازته السنوية لهذا العام وتكثيف العمل لإنجاز القضايا المتراكمة، خاصة بعد التعطيل الذي شهده الجهاز القضائي طوال العام الماضي بسبب الأحداث التي مرت بها بلادنا، وكذا إضرابات القضاة ثم العاملين في المحاكم وما نتج عن ذلك من تراكم للكثير من القضايا، إلا أن شيئاً من ذلك لم يحدث بل إن مجلس القضاء الأعلى اعتمد شهر ذي الحجة كإجازة قضائية إلى جانب شهر رمضان، وكأن القضاء قام بعمله على أكمل وجه وعملية التقاضي تسير بسلاسة تامة وتم البت في الكثير من قضايا الناس أولاً بأول ولم يتبق سوى القليل سينجزها بعد انقضاء الإجازة القضائية. • لا نبالغ إذا قلنا إن القضاء في بلادنا وبفعل الفساد المستشري فيه من أعلى رأسه حتى أخمص قدميه هو أحد الأسباب الرئيسية لأغلب ما يحدث هنا وهناك من مشاكل وجرائم ومصائب، إما بسبب إطالة أمد التقاضي أو عدم استقلالية القضاء أو التحيز تجاه أحد الأطراف في القضايا المنظورة أمامه، فمن الطبيعي أن الإنسان ينشد العدل إذا ما تعرض لظلم أو انتقاص من حقوقه، وعندما يذهب إلى القضاء ولا يجد من ينصفه ويعيد إليه حقه المسلوب فإنه يلجأ إلى أخذ حقه بيده واتباع الأسلوب الذي يراه كفيلاً باستعادة حقه ولو كان عن طريق ارتكاب جريمة، والقضاء هنا يتحمل المسئولية الكاملة عن بروز وانتشار هذه الظواهر والسلوكيات السيئة في أوساط المجتمع، فلو أن القضاء أنصف المظلومين وأعاد الحق إلى أصحابه لما وجدت هذه السلوكيات. • وحتى نكون صريحين فإن القضاء كان ولا يزال الوكر الأكبر للفساد في بلادنا، فرغم كل المزايا والامتيازات التي يتمتع بها منتسبو القضاء، إلا أن الرشوة والمحسوبية لا تزال الوسيلة المفضلة والأسرع للحصول على الأحكام القضائية، وهو الأمر الذي جعل أغلب أبناء المجتمع لا يثقون بالجهاز القضائي، ويفضلون اللجوء إلى أساليب أخرى قد تتضمن العنف والقتل لاسترداد حقوقهم، لأنهم يرون أن القضاء وأحكامه لن تحق الحق ولن تقيم العدل بسبب الفساد الذي يُمكن صاحب النفوذ والمال من تجيير الأحكام لصالحه بينما صاحب الحق يكون الحلقة الأضعف في عملية التقاضي ويصبح القضاء هو من يسلبه حقه بدلاً من أن يعيده إليه وهناك الكثير من القضايا التي انتهت بسلب الحق من أصحابه وإعطائه إلى غير مستحقيه. • الاعتصامات الأخيرة التي شهدها القضاء هي الوحيدة التي لم تجد أي تعاطف من قبل العامة، والسبب واضح وجلي هو أن العامة أكثر المتضررين من فساد القضاء، كما أن منتسبي القضاء هم الأفضل من بين العاملين في الدولة الذين يتمتعون بكادر وظيفي خاص فيه من الامتيازات والمزايا المغرية والخيالية ما لا يحلم بالحصول عليها غيرهم ولو مجرد حلم، ولو أنهم قاموا بدورهم في ترسيخ العدل والمساوة لوجدوا تعاطفاً كبيراً، لكن اعتصاماتهم قوبلت بالمزيد من الاستهجان والسخط، وهو ما يدلل على عدم ثقة المجتمع بالسلطة القضائية القائمة. • القضاء يجب أن يتمتع باستقلالية تامة، أي من الضروري أن يكون بمنأى عن أية تأثيرات أو ضغوطات أياً كان مصدرها، ومن المعيب أن يكون تابعاً لسلطة أخرى أو تتأثر الأحكام الصادرة عنه بضغوطات غير قوة الدستور والقانون، هكذا نفهم القضاء واستقلاليته، لكن في بلادنا فإننا نكذب على أنفسنا عندما نقول إن لدينا قضاء مستقلاً فأولاً ليس لدينا قضاء حقيقي وإن وجد فإنه لا يتمتع بأي استقلالية، هذه الاستقلالية لا تمنح ولا تأتي عبر الاعتصامات والاضرابات بل هي صفة أصيلة ولازمة للقضاء الحقيقي وتمارس كسلوك من قبل القضاة أنفسهم ومتى ما احترم القاضي نفسه ورفض الخضوع للتأثيرات والضغوطات وابتعد عن الأهواء والمصالح الشخصية والمزاجية وكانت أحكامه تروم تحقيق العدل والإنصاف فساعتها يمكن الحديث عن قضاء مستقل. • إذا ما أردنا إقامة الدولة المدنية الحديثة، دولة النظام والقانون، فإن تطهير الجهاز القضائي من الفساد وتنقيته من كل الشوائب التي تدنس هيبته أمر ضروري جداً، أما بقاؤه على هذا الحال المزري والوضع المخزي سيبدد كل أحلامنا وآمالنا بقيام دولة مدنية حديثة، فالحقيقة والمنطق يقولان إن القضاء العادل والنزيه هو أساس وعماد قيام الدولة المدنية الحديثة ودون توافره فإن أية جهود للتطوير والتحديث والبناء المدني ستذهب هباءً منثوراً. [email protected]