الكتابة الفكرية في ظل الأحداث المحلية والدولية الراهنة، تشبه الصلاة في قاعة واسعة، تكتظ بثلاث فعاليات متزامنة: الأولى حفلة زار لإخراج عفريت فاسد تلبس بجسد امرأة مترهلة، والثانية حفلة زفاف لشاب جريح بفتاة مشوهة، والثالثة جلسة عزاء لميت في غير أوانه. والكاتب المسكين مطالب بتقديم ما عليه من التزامات اجتماعية تجاه الجميع: مطالب بتقديم العزاء لأهل الميت، ومطالب بتقديم التهاني للعروسين وأهلهما، ومطالب بالتعاطف مع المرأة الممسوسة، وأحياناً مع العفريت الذي تلبس بها. وقبل ذلك وبعده، هو مطالب أمام ربه بإقامة الصلاة قبل فوات الأوان. باختصار، الكاتب مطالب بأن يبتسم مرة واحدة، مقابل ثلاث “تكشيرات” في اليوم. وأن يرسل كلمة خفيفة واحدة، مع كل ثلاث كلمات ثقيلة. وهذا يعني أنه بحاجة إلى أعصاب أمانويل كانت لا إلى أعصاب فريدرك نيتشه، وذلك مطلب عزيز، لا يتوفر بسهولة. لكن يبدو أن الإنسان قد تم تصميمه لمواجهة مثل هذه الظروف، ولعل ذلك من معاني قوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ. (البلد4). ويبقى الفرق بين شخص وآخر، وأمة وأخرى، هو في نسبة “الكبد” الذي يعانيه، وفي القدرة على مجاراة هذا القانون الحتمي. وهذا يضعنا أمام سؤال فلسفي قديم، يحلو لإخواننا الإسماعيليين استعماله في الترويج لعقيدة تناسخ الأرواح الرائجة بينهم ، يقول السؤال: لماذا كتب الله الشقاء على الإنسان في الحياة ما دام رحيماً؟. وقد وجد في التاريخ من يقول - جواباً على ذلك - إن الخير والشر، واللذة والألم، هي ثنائيات متعارضة بالنسبة إلى عالم المخلوق فقط، أما عند الخالق فكل شيء سواء، لأن الله منزه عن الشعور باللذة والألم، وهما مناط تحقق الخير والشرّ، ومن ثم فهو منزه عن فعل الظلم بهذا المنطق الفلسفي. لكن هذا القول يجد صعوبة في الإجابة عن سؤال: لماذا إذن ينفي الله الشرّ عن نفسه ما دام أن الخير والشر عنده متساويان؟. ومع ذلك فإن الإجابة على السؤال الأخير ليست مستحيلة، من الناحية المنطقية. على شرط أن يعاد تعريف مفهومي الخير والشر، لا من منظور نفعي كما تفعل الفلسفة البراجماتية (النفعية)، وإنما من منظور الفلسفة العقلانية. ذلك لأن البراجماتية ترى أن الخير والشر أمران تحددهما اللذة والألم، لا العقل أو الدين. ومن ثم فهما لا يتسمان بالثبات، كما يقول الدين وتقول الفلسفة المثالية. أما الفلسفة العقلانية فهي تسمح بوجود قيم ثابتة، وتضع عالم الغيب في دائرة الممكن، الذي لا نستطيع إنكاره ولا إثباته، بأدلة يقينية. وهذا هو المستوى المعقول من الحياد النظري. واستبعاد المنظور البرجماتي من هذه العملية التأملية ليس عملاً مزاجياً بحتاً، بل هو عمل مبرر فلسفياً، إذا ما أخرجنا مشكلة الخير والشر من مجال الخالق إلى مجال المخلوق. وهنا تحديداً يبدأ الامتحان الصعب للفلسفة البرجماتية، فهي مخيرة بين أمرين، إما القول بأن الإنسان هو صانع قيم الخير والشر، وأن هذه القيم مرتبطة بشعوري اللذة والألم عنده، وهو القول الذي لا يتسق إلا بإنكار الإله نفسه، وإما القول بأن الإله كالإنسان يلذ ويألم، وهو ما يؤدي إلى عقيدة بدائية ساذجة في حق الإله، يسخر منها حتى البرجماتيون أنفسهم. لم يعد أمام المؤمن سوى أن يتخذ سبيل الفلسفة العقلانية، للإجابة عن سؤال الخير والشر، حتى يضمن الاتساق وعدم التناقض. وهو سبيل لا يؤدي - بالضرورة - إلى منطقة اليقين كما قلنا، وإنما يسمح بإعطاء إجابة تتسق مع منطق العقل والدين. ما دام العقل والدين لا يمنعانها. فكيف يمكن تفسير مشكلة الخير والشر، من هذه الزاوية الفلسفية يا ترى؟. إن الكاتب يفضل النظر إلى هذه المشكلة في سياق أكثر شمولاً واتساعاً، يتبدى فيها الخير والشر كمظهرين من مظاهر الخطة الإلهية في خلق الكون وإدارته. وهو يفترض - بناءً على منطق نظرية التعادلية التي طرحها توفيق الحكيم - بأن هذه الخطة الإلهية تحتوي على شعبتين سننيتين، الأولى شعبة سنن البناء، والأخرى شعبة سنن الهدم. ويعد الخلق هو أبرز مظاهر شعبة البناء، كما يعد الموت هو أبرز مظاهر شعبة الهدم. ويبدو أن قيم الخير والعدل وما شابهها، تنتمي إلى شعبة سنن البناء، وأن قيم الشر والظلم وما شابهها تنتمي إلى شعبة سنن الهدم. وجدلية الهدم والبناء بدورها هي مظهر من مظاهر الألوهية نفسها، إذا ما علمنا أن صفة الكمال الإلهي تقتضي الخلق والتنويع. إلا أن هذا الخلق ينبغي أن ينطوي في الآن نفسه على مفارقة أخرى هي النقص. فلا يجوز - في حكم الكمال الإلهي - أن يكون المخلوق كاملاً كالإله. ولعل الفلسفة الكامنة وراء النظرية البنائية تقدم لنا المزيد من التفسيرات والشواهد في هذا الصدد، ولا مجال هنا للتفصيل. والإنسان مخير بين أن يضع نفسه في سياق هذه الشعبة أو تلك، وينبغي أن يتحمل نتيجة هذا الخيار أو ذاك، ما دام قد أعطي الإرادة على الاختيار والقدرة على التمييز. لكن السؤال يظل قائماً: لماذا ينفي الله الشر عن نفسه ما دام يستوي عنده النقيضان الخير والشر؟. والجواب المنطقي وفق هذه الرؤية، هو أن الله سبحانه، حينما ينفي عن نفسه الشر، فإنما ينفي عن نفسه فعل النقص في الخلق والتدبير، لأن الشر هنا يأخذ معنى اختلال التعادلية بين قوانين البناء وقوانين الهدم، لا خلق قوانين الهدم نفسها. وهكذا يصبح الفساد الذي يقترفه المخلوق نوعاً من الإخلال بقوانين التدبير الإلهي، يرتد على صاحبه بالألم، وفقاً لمنطق الهدم نفسه. ولعل هذا هو الفهم الأنسب لمثل قوله تعالى: “ما أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ. (النساء7). وكأن الإصابة بالحسنات هي القانون الأصيل، والإصابة بالسيئات هي الاستثناء، الذي يحدث بتدخل المخلوق في الإخلال بمعادلة البناء والهدم.