“السّلفيّة اليمنيّة” ليست اتّجاهًا واحدًا، بل اتّجاهات عدّة، ومنهجيّات مختلفة، وطرائق في التّفكير والإدارة والعمل، الجديد الآن، وبعد ظهور ما يُسمّى ب“ثورات الرّبيع العربيّ”، أفصح السّلفيّون بوضوح لمن يعرفهم، ومن لا يعرفهم، ومن يحتار في أمرهم أفصحوا عن تحوّل جديد في فكرهم السّياسيّ، بعد أن نأوا بأنفسهم عن الخوض في غمار اللّعبة السّياسيّة، واكتفوا بصورة النّاقد لمجريات العمل السّياسيّ من حولهم، مع تقرير فتاوى بعض علمائهم بكفر الدّيموقراطيّة وانحراف الوسائل المحقّقة لها، وهو طرح شديد جعل على قلوب السّلفيّين سياجًا ومانعًا من مجرّد القرب منها، أو الحديث فيها، بل الدّخول في معتركها!! وفجأةً، وبدون سابق تهيئة فكريّة، كمراجعات مستفيضة لِما كانوا يقرّرونه بخصوص أطروحاتهم السّابقة، تجريها القيادة السّلفيّة أفقيًّا، وليس رأسيًّا بين قواعدهم الشّبابيّة صغارهم وكبارهم؛ أعلنوا عن نيّتهم في قيام حزب سياسيّ!! هكذا بدون مقدّمات مقنعة، ولا مشاورات متجرّدة وواسعة وشاملة. قال بعضهم: إنّهم يتيمّنون بفعل إخوانهم في مصر، وقال آخرون: إنّ الضّرورة تحتّم المشاركة السّياسيّة، ولا يسع التّأخير في إعلان الحزب. العجلة مظنّة الوهن والضّعف، فقد وُلد الحزب السّلفيّ ضعيفًا، فمع ما صُرِفَ عليه من مال، وهُيِّئ له، لكنّه لم يكن شاملاً لأكثر السّلفيّين الذين خرجوا، وأعلنوا تضامنهم مع الثّورة، والخروج على الحاكم الظّالم، والذين أنشأوا ائتلافات دعويّة تغييريّة، لم تتبنّ الحركة السّياسيّة، ولكنّها بقيت على طريقتها الدّعويّة السّابقة، حقّقوا من خلال هذه الائتلافات شيئًا من التّقارب المفقود بين المكوّنات السّلفيّة الدّعويّة القائمة، بعد عقود من وهن العلاقة وتباعد المسافات في العمل الدّعويّ والخيريّ. الانتقال السّريع لإعلان “اتّحاد الرّشاد السّلفيّ” كحزب سياسيّ يحمل الوجهة السّلفيّة، لم يفلح في إذابة جليد التّمايز بين مكوناتهم السّلفيّة ولم يوصّف الحالة اليمنيّة توصيفًا شموليًّا عادلاً، فكان جنينًا ضغطت “القابلات” على الرّحم السّلفيّ لإخراجه ولو كان مشوّهًا أو مشلولاً، ويدور الحديث عن ماهيّة هذه القابلات، قيل: إنها واجهات إسلاميّة “إخوانيّة” لها من التّأثير والكاريزما القبليّة ما تتكسّر أمامها أي مسمّيات مهما كان حضورها الاجتماعيّ أو العلميّ أو السّياسيّ!! ورأي آخر يضع المموّل الخليجيّ كمؤثّر أبرز للعلاقة الوطيدة التي تجمعه بأحد أبرز المتحمّسين لإعلان الرّشاد السّياسيّ. العجيب في الأمر، الواقع السّياسيّ السّلفيّ بعد “اتّحاد الرّشاد” أصبح مفكّكًا أكثر من ذي قبل! وكان المفترض فيه أن يكون الجامع السّياسيّ للسّلفيّين في اليمن ، فبعد إعلان فصيل مؤسّس للرّشاد انسحابه منه، والتّلويح بإنشاء حزب سياسيّ سلفيّ آخر بسبب الإقصائيّة والفوضويّة في الاختيار لرئاسة وأمانة حزب “اتّحاد الرّشاد”، حدّ قولهم، فسيصبح لديهم حزبان في الشّمال، وآخران في الجنوب حيث حركة النّهضة في عدن التي سبقت الجميع في التّحرك السّياسيّ، وبقي عليها، فقط، الإعلان عن التّأسيس كحزب يتبنّى القضيّة الجنوبيّة كمطلب شعبيّ في المحافظات الجنوبية أمّا في حضرموت فلا يزال -إلى لحظة كتابة المقال- النّقاش والتّنظير والمداولة بين القيادة والأتباع للخروج برؤية حزبيّة أخرى ستتبنّى بدورها القضيّة الجنوبيّة. ولا يُستبعد ظهور مكوّن سياسيّ سلفيّ آخر، إضافة للمكوّنات الأربعة. قضيّة الجنوب محنة واختبار للمراجع السّلفيّة وأتباعها في اليمن؛ ففي المحافظات الجنوبية حراك سياسيّ منذ حرب صيف 94 ظلّت ناره خامدة تحت رماد الاحتقان السّياسيّ والشّعبيّ، حتى توهّجت وسطع نورها في عام 2007م على يد المتقاعدين العسكريّين تلبية لنداء من أعلنوا بضرورة تصحيح مسار الوحدة اليّمنيّة، ورفع الظّلم عن ثروة وأرض الجنوب وهويّته وثقافته، في كلّ هذه المرحلة التّاريخيّة من عمر الوحدة ودعوات الحراك السّلميّ ، لم يُرَ ويُسمع لعلماء السّلفيّة أيّ دور كبير وحقيقيّ في المناداة والسّعي الجادّ لتغيير الواقع السّيّئ الذي يعيشه الجنوب ، وقالوا: إنّ علماء السّلفيّة في الجنوب ينظِّرون في كلّ القضايا الإسلاميّة، ويبحثون لها عن حلّ إلاّ القضيّة الجنوبيّة التي هي قضيّة شعب مسلم مظلوم، وليست قضيّة جماعة كانت تحكم فضاعت عنها سلطتها كما يصوّرها البعض. الجدير ذكره هنا هو أنّ الحراك ارتضوا لهم مفتيًا من السّلفيّين له حضوره المؤثّر في ساحات الحراك في عدن. هذا التّقاعس والعجز عن أن يكون للعلماء السّلفيّين حراك مؤثر واضح وجليّ في اتّجاه حلحلة المشاكل التي تعصف بالمجتمع اليمنيّ وفي مقدّمتها القضيّة الجنوبيّة، أدّى إلى تقوقع حضورهم السّياسيّ والاجتماعيّ، ممّا عزّز الانقسام بين قياداتهم وقواعدهم؛ فارتفعت أصوات منهم تنادي بفكّ الارتباط . وارتفعت أخرى تنادي بالحفاظ على إنجاز الوحدة اليمنيّة والسّعي لإصلاح ما خرّبه النّظام السّابق في بنيانها، باعتبارها بابًا للوصول للوحدة الإسلاميّة الكبرى. وبقيت أصوات أخرى تمسك العصا من الوسط فتُبقي على الوحدة مع الانتقال للنّظام الفيدراليّ كونه مرحلة متدرّجة تساهم في تحديد وجهة الجنوبيّين تجاه الاستمرار في الوحدة. هذا الانقسام والتّعدّد السّلفيّ يراه البعض قاصمة ظهر للسّلفيّين، يصعب عليهم في قادم الأيّام التّعافي منها، بينما يراه آخرون طبيعيًّا مادام الجميع متّفقين على الخطوط الأساسيّة للمنهج السّلفيّ. وكأن خريف السّلفيّين في اليمن حلّ عليهم بينما سلفيّو مصر يتنسّمون ربيعًا سياسيًّا، استطاعوا من خلاله حجز موقعهم بين النّاس، ووصلوا إلى قبّة البرلمان، وشاركوا مشاركة فاعلة في الحراك السّياسيّ، والمساهمة في صياغة قوانين الدّولة ودستورها، والسّعي الدّيموقراطيّ في التّغيير، وهذا لقي احترامًا وإشادة من خصومهم قبل أصدقائهم. مما يوضّح مدى الانعزاليّة التي عاشها السّلفيّون في اليمن والرّكون في زوايا مفاهيم قديمة وعتيقة، مع ضعف التّصور للواقع وانعكاساته على حياة النّاس، والاكتفاء بعموميّات لا يستسيغها الشّارع اليمنيّ.. ولعلّ لي وقفة قادمة للنّظر في الأسباب التي أدّت بسلفيّي اليمن إلى هذا المآل.