تظل الأطروحات ومشاريع البناء حبراً على ورق, وتظل الشعارات واللافتات كلمات لا روح فيها, ولا تشغل إلا حيزاً صغيراً وضيقاً لا يتعدى المساحة التي كتبت أو قيلت فيها, ما لم تصير واقعاً معيشاً وملموساً, يتجسد أولاً في المتصدرين للمشهد السياسي كنموذج عملي يصبو الناس لمحاكاته, والعمل في كنفه للخروج إلى ما هو أصلح وأجمل وأفضل لنشدان مستقبل زاهر لوطن عنوانه المواطنة والمصالح المشتركة بدلاً عن المحاصصة والتقاسم والتغالب والتقاتل والتباغض.. فما جدوى ثورة عمل لها الجميع ما لم يتخلق صانعوها بأخلاق الثوار النبلاء؟ فالعجيب أن كل الثوار قادة لا قائد محدد لثورة التغيير هكذا وعى الجميع منذ الصيحة الأولى, فالخروج على الظلم والانتصار لقيم العدالة والحرية كان مطلبنا وشعارنا الأثير, مع ضخ للدماء الجديدة في جسد الأمة المنهك, فظهرت طاقات متجددة من الشباب والرجال صاروا قدوات للعالم أجمع, وهو ما أيقظ العدو المتربص بنا فعمل على التفريق ما بيننا والتشكيك في قدراتنا, بل في ثقافتنا وخصوصيتنا الدينية, لذلك نرى التخبط والخلط الواضح وتعمية الصحيح ومهاجمة الشريك في الكفاح والثورة على الظلم ممن تقاسمنا بالأمس هموم هذا الوطن شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً.. لذا نشاهد ونلمس أن هناك من يريد العودة بنا إلى المربع الأول بإعادة إنتاج مشاهد, وخلق نماذج قد سئمنا منها, وعملنا على التخلص منها, نماذج والغة في الفساد, وعندها استعداد فطري لاستعباد هذا الوطن وامتهانه من جديد, إذ يعمل الإعلام على تسليط أضوائه على شخصيات يراد منها أن تكون قدوة وقائدة لثورة التغيير, ولما بعده, وهي لم تؤمن بعد بالتغيير, الذي يبدأ أولاً بتغيير النفوس, ثم السعي لتغيير كل ما يعتمل حولها, لذا نلاحظ محاولة إثارة الإعجاب, ووضع الهالات المبالغ فيها وبكل الوسائل, وصنع تماثيل جديدة, لتتربع قلوب الجماهير وتستوطن فيها, لتكون أسوتها وقائدتها, والمتصدرة لكل فعل أو عمل يخدم أجندات أخرى, لا تمت بصلة إلى أحلام ومشاريع بناء هذا الوطن.. فكثير من الشخصيات التي يُعمل على بروزها لا توجد لها أهداف واضحة غير المصطلحات والعناوين البارزة والظهور في مواطن الخلاف والتباين ولا تتعامل مع كل الناس سواسية, بل هناك تفريق وعنت لا يدعو إلى التوحد والبناء والقواسم المشتركة والمشاريع البناءة , التي تضع نصب أعينها ما يخدم المواطن البسيط وتطلعاته, المواطن الذي لا نريد له الاستلاب والإعجاب السلبي بشخصيات تريد إشباع غرائزها المريضة وإرضاء ذواتها الغارقة في الحقد والعداوة لكل شيء جميل, إذ لا بد من الابتعاد عن التأمل التجريدي في سبحات الخيال, وخلق القصص الوهمية وزرع الخوف من المستقبل, وترك نشر التنبؤات, التي لا تخدم إلا الشياطين من الإنس, ممن تعشق البهرجة والصخب وتمتهن السباب و اللعان, ومراقبة العاملين والضاجين حيوية وعملاً, وقد لا تكتفي بالمراقبة, بل تضم إلى ذلك وضع كل العراقيل والحواجز, وزرع الألغام, وكل ما يحجزنا عن التقدم والنهوض.. لذا نتطلع ويتطلع الجميع إلى إيجاد نماذج وقدوات تتخلق الفعل النبيل تدافع عن حقوق الناس وتتنصر للمظلومين وللمبعدين قسراً وللمخفين, تأتي بحقوق من سقطوا فداء لهذا الوطن ليتخلص من ظالميه وجلاديه.. شخوص حقيقية لا دمى تعمل وفق إرادتها وإملاءات ضمائرها, التي يجب أن تكون مكاناً للأخلاق والمكارم والمثل لا وفق ما يريد الآخر.. شخوص تستميت من أجل مبادئها وقيمها وأفكارها, ألم يقل سيد: “ ستظل كلماتنا عرائس من الشمع لا روح فيها ولا حياة, حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة” تكون مستقلة ومتحررة من كل تبعية وتقليد ساذج, تخلع كل ما يقيدها ويأسر أفكارها, تنظر إلى المستقبل بأمل وحب وحياة, فالحياة حلُم جميل لمن يريد عيشه بسلام وطمأنينة.. نريد شخوصاً قائدة لا مقودة, قائدة بفكرها الخلاق وأفقها الواسع, وتطلعها الذي لا يحده شيء, لا نريد إمعات أو ببغاوات تردد محفوظاتها بصفاقة وامتهان, أقوالها في واد وأفعالها في واد آخر تعمل على إلغاء أي خصوصية نمتاز بها ونفاخر.. نريد شخوصاً تكون عندها الاستعداد الكامل لأن تحاسب نفسها إذا أخطأت, فقد قيل: “من لا يستطيع تصحيح أخطائه فلا يصح له أن يكون قيّماً على أخطاء الآخرين” فتكون ترجمةً عمليةً لأقوالها وشعاراتها, ترجمة يحس بها الناس ويعايشونها ويلمسونها ويتخذونها أمثلة تمشي بينهم ومعهم.. نريد من يعلم ويقر في قراره أنه يمثل وطناً كبيراً, لا آراءً ضيقة أو حزباً أو مذهباً أو فصيلاً, يمثل فيه الطبقة المثقفة المنوط بها عملية التغيير والبناء والإصلاح والإرشاد, ليعمل مع كل الخيرين لما فيه الوحدة والقوة والمنعة لإحداث التغيير المنشود تعليمياً وسياسياً وثقافياً ومعيشياً..