أدرك البشر أثر الصيام في صفاء الروح وجلاء النفس، ومن هذا الإدراك نشأ عندهم الربط بين الصيام والكشف. ونجد مثل هذا الربط في أديان ومذاهب شتى.. وهو ربط يرتكز على حقيقة جوهرية تقول: إن النفس البشرية تكون أقرب إلى الحقيقة في حال صفوها.. ولأن البشر أدركوا من خلال تجاربهم مع الصيام أثره في تحرير الروح والسمو بالنفس فقد ربطوا بين الصيام وبين الكشف الموصل إلى الحقيقة. ففي الأديان البدائية كان على الكاهنة أن تستعد للتنبؤ بصيام ثلاثة أيام تمتنع فيها عن تناول الطعام والشراب وعن الكلام والعمل أيضاً مكتفيةً بمضغ بعض أوراق الشجر! كذلك كان للصيام دور رئيس لدى العشائر البدائية التي تقدس (الطوطم) في اكتشاف الطوطم الشخصي لكل فرد في القبيلة، والطوطم هنا قد يكون حيواناً أو نباتاً، وكان الشخص البدائي يعتقد أنه طوطمه الشخصي هو نصيره وحاميه، وفي سبيل اكتشافه كان عليه أن يبدأ عزلة تامة عن الناس مقرونة بالصيام حتى يرى رؤية ترشده إلى طوطمه الخاص. وفي ديانات الهند القديمة كالبرهمية والجينية واليوجية يعتبر الصيام وسيلة للتجلي الروحي وسبيلاً للاستكشاف وطريقاً للخلاص الأبدي؛ إذ عن طريق الصوم يحصل التطهير للنفس ويوهب الإنسان بصيرة يدرك بها (براهما) ويمتزج به في النهاية!. وفي اليونان كان التنبؤ وظيفة رسمية، وكان مقر البلدية في روما يعج بالمتنبئين، وكان سائداً عندهم أن النساء أكثر استعداداً لاستقبال الوحي من الرجال، خصوصاً عذراوات المعابد، وكانت وظيفة التنبؤ تقتضي صياماً يؤديه أولئك المتنبئون والمتنبئات. وفي الديانة اليهودية نجد مثل هذا الربط بين الصيام والاستعداد النفسي لاستقبال الوحي، فقد صام النبي موسى عليه السلام أربعين يوماً؛ استعداداً لاستقبال التوراة، جاء في سفر الخروج التوراتي (34: 28): ( وَمَكَثَ مُوسَى فِي حَضْرَةِ الرَّبِّ أَرْبَعِينَ يَوْماً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، لَمْ يَأْكُلْ فِيهَا خُبْزاً، وَلَمْ يَشْرَبْ مَاءً. فَدَوَّنَ عَلَى اللَّوْحَينِ كَلِمَاتِ العَهْدِ، أَيِ الْوَصَايَا الْعَشْرَ). وكذلك صام النبي إلياهو (إلياس) عليه السلام، أربعين يوماً قبل أن يتكلم مع الله (سفر الملوك الأول 19: 8). ومنع دانيال نفسه عن أكل اللحم والخبز ولم يشرب الخمر لمدة ثلاثة أسابيع قبل أن يحصل على رؤيته (سفر دانيال 10: 2 – 6). وفي تراثنا الإسلامي نجد الإمام الغزالي يذكر في كتابه الإحياء الصيام كوسيلة لتحصيل صفاء الفكر وعلوم المكاشفة. ولم يقتصر الأمر على الأديان بل كان بعض الساسة يرى في الصيام وسيلةً لاتخاذ القرار الصائب المنزه عن الظلم كالإمبراطور الصيني ( ناي دزونج ) الذي حكم الصين خلال الفترة 627-650ق.م وأصدر قانوناً يقضي بأن لا يصدق الإمبراطور على أي حكم بالإعدام إلا بعد أن يصوم ثلاثة أيام! وكل ما سبق يؤكد أن الصيام نافذة الروح... وأنه كلما كان الصيام أكمل... كانت النافذة أوسع... والرؤية أوضح. [email protected]