بات من المسلم به أن الشعوب لا تتغير بثورات الميادين والساحات فقط، لأن ثورة الوعي هي الركيزة الأساسية التي ستحدد وجهة الثورة في النهاية، فإذا كان الثائرون مجرد غاضبين فسينتهي بهم المطاف في خانة (الملعوب عليهم)، وإن كانوا واعين بقدر ثورتهم فسينتهي بهم المطاف بقطف ثمار لم يتوقعوها في أول خطوة. الغاضبون في ثورتهم يمكنهم أن يحطموا المستحيل كله، ولكنهم يصلون إلى نقطة النهاية مبكراً، ثم إذا ما حاولوا العودة اصطدموا بنقطة النهاية التي جعلوها وجهتهم الأخيرة، والشعوب الغاضبة يسهل انصياعها لشرارات الفتن الطائفية، كما يسهل توظيف غضبها لتحقيق مكاسب لدول صديقة وشقيقة وطامعة على حد سواء، لذا نرى أن الغضب الذي أزهرت به حقول الربيع العربي سرعان ما أصابها خريف الطائفية، أو لا يزال ينمو ويجد البيئة المناسبة في ظل ثقافة الجهل التي تصم الآذان. والغريب في الأمر أن بوادر وعي كانت تصدر أشعة هنا وهناك، لكن معظمها مع مرور الوقت كانت تعبر عن وعي منغلق على سياسة حزب، أو عقيدة مذهب، أو فكرة ضيقة، لذا لا عجب أن نرى تلك الأزهار لا هي تنمو ولا هي تسقط، وإنما جزر ومد، تمد عنقها للشمس لتعيش ثم تصطدم ببعضها وتسقط أوراقها مبكراً. والوعي المنغلق أشد خطورة من اللاوعي، ففي الأولى يصبح القتل ديناً، ويصبح التسامح ذلة! ويصبح الوطن مُطية لكل من هب ودب باسم الدين أو السياسة أو المصلحة العامة، أما في الثانية فلغة التسامح أو الابتسامة أو المعرفة تكون كفيلة بإزالة الحجب. الوضع الراهن لمختلف الثورات العربية يشبه الدوران في حلقة مفرغة، وكأن كل ما حدث كان مجرد حلم يكاد ينقضي بسبب الإهمال، فقيادات هرمة تبحث عن مكاسب إضافية، وقيادات فتية ترى كل ما حولها خطأ وأن وجهتها وحدها هي الصواب، وتفاصيل أخرى تخلق المزيد من الضباب في المشهد الكلي، لكن ثمة خيط مشترك كريح تهب على بلدان الربيع العربي لتطفئ جذوتها، هذا الخيط يتمثل بتكرار أخطأ الآخرين، فبدل من أن تتعلم تلك الدول من خيبات بعضها- والتي أعاقت انطلاقها وأحالت جذوتها إلى رماد مبكر- تعمل على قراءة نفس القصة ولكن بالمقلوب، وكأن لون الدم سيصير أخضر إذا قرأنا القصة بالعكس! الوطن العربي هو كتلة واحدة بالأساس، ويخبرنا التاريخ أن ذاكرة الزمن القادم كفيلة بأن تزيل أشواك الحدود المتصلبة بين الأخ وأخيه، لكن لن يحدث ذلك طالما جعلنا المذهب وسيلة للقتل، وطالما جعلنا مصالحنا الشخصية وطناً لتوجهاتنا، وطالما بقينا متمسكين بعمانا تحت ذريعة “كل شيء مقدر”!