أعتز في مسيرتي الصحافية أنني التقيت بثلاثة من رؤساء أثيوبيا وأريتريا وجيبوتي.. استرجعت مناسبة هذه اللقاءات إثر الغياب المفاجئ لرئيس الوزراء الإثيوبي ميليس زيناوي حيث التقيت الرجل في مكتبه بالقصر الجمهوري وسط العاصمة الإثيوبية صيف عام 2007م وذلك قبيل استضافة أديس أبابا لقمة دول تجمع صنعاء الذي تصدع قبل أن تتشكل ملامحه, حيث كان يضم كلاً من أثيوبيا ومصر والسودان بالإضافة إلى اليمن ومؤخراً الصومال.. لقد كان لكل من اللقاءات الثلاثة التي أجريتها مع هؤلاء الرؤساء ظروفه وملابساته.. ولعل ماتسعفني به الذاكرة الآن الحديث عن ملابسات اللقاء مع الرئيس زيناوي رئيس وزراء أثيوبيا الذي فقدته القارة السمراء برمتها ودول الجوار العربي أيضاً.. حيث ظللت أتابع موعد الالتقاء به طيلة ثلاثة أسابيع دون أن تلوح في الأفق بشائر تحديد هذا الموعد, ومما عزز قناعتي باستحالة الالتقاء بالرجل، كونه أولاً مقلاً في الحديث إلى الصحافة وكون كل الذين حادثتهم أفادوني باستحالة ذلك لانشغال الرجل.. وكان آخر الذين بددوا ماتبقى من أمل مراسلة صحيفة الحياة في أديس أبابا عندما أخبرتني رغم محاولاتها باستحالة ذلك اللقاء فضلاً عن المواعيد التي كنت قد طلبتها من المسئولين في وزارة الخارجية الأثيوبية وهي المواعيد التي تبخرت في الهواء.. مع شروق اليوم الأخير في العاصمة الأثيوبية وأنا أتنسم هواءها العليل ورذاذ المطر المتساقط عبر نافذة غرفتي جاء من يقرع الباب فإذا به موظف من الخارجية الأثيوبية, ولم أصدّق وهو يخبرني بموافقة الرئيس ميليس زيناوي بموعد اللقاء الذي تقرّر بعد نحو ثلاث ساعات وكان ذلك يتزامن مع موعد رحلة العودة إلى صنعاء.. الأمر الذي جعلني أرتب حقائبي مسرعاً وأضعها في السيارة التي ستقلّني إلى المطار, وكان برفقتي الأخ الصديق محمد الصبري القنصل في سفارتنا هناك الذي قام بترجمة الحوار.. كانت الدقائق تمر ثقيلة ونحن نحتسي فناجين القهوة الحبشية المشهورة في غرفة صغيرة ملحقة بمكتب رئيس الوزراء زيناوي وبين الفينة والأخرى كان يطل علينا أحد موظفي المراسيم فأشعر بأن موعد اللقاء قد حان ولكنه كان يطلب إلينا التريث والانتظار لبرهة إضافية نظراً لانشغال الرجل.. وأخيراً حان الالتقاء برئيس الوزراء الرجل القوي في أثيوبيا.. ولكم شعرت بالاطمئنان وأنا أصافحه من أن الأمر صار حقيقة، متأملاً في وجهه وإلى سكسوكته التي تميز بها ولون بشرته.. حيث بدأت في طرح تساؤلاتي بينما بدأ الرجل يجيب عليها بصوت خافت وقد وضع إحدى رجليه على الأخرى.. وبدا لي وهو يسند ظهره إلى كرسيّه المتواضع.. أقصر قامة ومتبسماً على غير الصورة المنطبعة في الذهن بينما انساب حديثه بصوت هادئ وبثقة وهو يجيب على مختلف القضايا التي طرحتها أمامه وبخاصة في القضايا المتعلقة بالحدود الملتهبة مع كل من السودان والصومال وأريتريا فضلاً عن مشكلات الفقر والنمو المتزايد للسكان والبنية الأساسية حيث كان الانطباع الذي تركه الرجل في نفسي من خلال ذلك اللقاء قدرته على الإلمام بكل أوراق اللعبة داخل أثيوبيا، فضلاً عن إدارته لمشكلات الحدود مع جاراته الأفريقية بكل اقتدار وحنكة والانتقال ببلده نحو التنمية المنشودة خطوة خطوة وسط غبار من تلك المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والسكانية وكذلك مشكلات تعدد الثقافات والديانات والاعتقادات الأثنية ومشكلة التخلف الاجتماعي والاقتصادي الشامل ومع ذلك استطاع أن يجعل من أديس أبابا خلال السنوات الأخيرة مركزاً مهماً لاستقطاب الاستثمارات الخارجية وعودة الرساميل والمغتربين الأثيوبيين إلى الداخل حيث كنت أنا أشهد في كل يوم قيام منشآت ضخمة في مختلف القطاعات. إن الانطباع السائد بعد الغياب المفاجئ للرجل القوي في أثيوبيا ما ستؤول إليه أحوال هذا البلد المترامي الأطراف خصوصاً بعد الفراغ الكبير الذي تركه رحيل ميليس زيناوي كشخصية قوية استطاعت أن تدير اللعبة داخل أثيوبيا وعلى الحدود، وحتى تتلاشى لحظة الصدمة في غياب الرجل سيبقى الجو ملبداً بالغيوم والحزن في سماء هذا الوطن ولكنه لن يكون بمنأى عن التجاذبات الداخلية إلى أن يبرز رجل بمقدرة الراحل في إدارة التوازنات الداخلية والخارجية وحتى ذلكم الحين سأبقى معكم في انتظار الجواب على التساؤل القائم وهو: من سيخلف أو سيغطي الفراغ الذي تركه ميليس زيناوي ؟!