كلما أمر في طريقي أتأمل تلك الملامح المغبرة، بعضها لم يكمل عامه الرابع عشر وبعضها أقل، وبعضها لا تدري في أي سن يكون صاحبها، فقط يتقاسمون قيض الشمس وابتساماتهم الصغيرة التي صارت أشبه بحجارة الرصيف الذي يجلسون عليه. يحملون الكثير من الألقاب التي لا يفقهونها والتي لا تتناسب مع أحجامهم الضئيلة، يتحملون من المشاق ما يثقل كواهلهم الفتية، ولكن في ثقافة بلد ترى من (الصبي) رجلاً منذ أن يولد تسهل عليهم المهمة، وفي بلد يتنافس فيه عدد قطع السلاح بعدد سكانه، وفي بلد ترى من مصلحة فرد ما مهمة مقدسة لا تقل أهميتها عن الدفاع عن الوطن، صار من العادي أن نمرر أحداقنا فوقهم، ونمر بهم بصمتنا، بل ونلقي عليهم التحية لأنهم حماة الوطن! أتساءل : أي وطن يحموه وهم لا يعرفون بعد ما هو الوطن؟ وأي هدف هذا الذي خرجوا من أجله وتركوا طفولتهم تسبح خلف كتب مدرسية ألقيت بعبثية فوق أنقاض الحروب المتفرقة في الشمال والجنوب! وأي بطولة تلك التي يرسمونها ببراءة دمهم الذي عرف الموت قبل أوانه! أدرك أنهم يجهلون كل هذه الأسئلة، ومع ذلك يواصلون التحاف القيض في صباحاتهم و مساءاتهم الطويلة من أجل...ربما حفنة من المال، وربما من أجل أن يجد مأوى بعد أن فقد عائلته في صعدة...وربما من أجل والده الذي يعد صديقاً مقرباً للضابط...وربما من أجل أن يكون مع ابن الجيران أو صديق قديم..يخبرنا المشهد في الأخير أن هذا الوطن لا يكف عن التهام أبنائه بمسميات مختلفة! قرأت في أحد التقارير أن الكثير من ذلك(الجيش الطفل) ينخرط بحمل السلاح مبكراً من أجل شراء الشكلاة! إذاً...ربما يكون وطنهم هو قطعة الشكلاة أو الحلويات التي يتقاسمونها بعد أداء المهمة، وربما يكون فقط لحظة تذوق تلك القطعة التي قد لا ينهونها إذا باغتتهم رصاصة لا تفرق بين جندي خرج من أجل المعركة وجندي خرج من أجل قطع الحلوى! تلك الوجوه الصغيرة التي تقف في نقاط التفتيش المستحدثة، أو تلك التي تغيب خلف جبال صعدة، أو في سهول أبين، هي ملامح لأطفالنا، أطفالنا الذين فقدوا معنى وجودهم بعد أن صار الوطن لا يحسن أن يتحدث إلا بلغة الحروب في ظل سلام هش، أطفالنا الذين لا يعرفوا ما معنى وطن، ولا يفكروا به إلا كقطعة سلاح تكون شرف الجندي الذي يمثلون دوره، أطفالنا الذين سندفن بعضهم إذا باغتهم الموت في أرض المعركة، ويتبقى الآخرون كآثار حرب فقدت أطرافها بسبب تجاهلنا، ولو أننا نرى أولئك المدججين بالموت -وهم لا يدرون- كأطفالنا، ما مررنا صباحاً لنلقي لهم تحية الشرف وكأن الأمر عادي للغاية، ولما تجاهلنا أولئك الذين يتاجرون ببراءتهم لتصفية حسابات شخصية، ولما توانينا عن الوقوف وقفة جدية ضد هذه الظاهرة. قد لا يدرك هؤلاء الأطفال أن قطع الشكلاة بألوانها الجميلة لا تعوض سنين الطفولة ولا تبتاع مرحها، ولكنا ندرك ذلك، لذا أقل واجب نقدمه لتلك البراءة المسفوحة تحت وطأة السلاح والمصالح غير المشروعة أن نقف معها ونخلصها من جهلها باستحداث أو تفعيل القوانين التي تجرم تجنيد الأطفال.