موقف: “وليس الذكر كالأنثى” أوقفتني على هامش فعالية ثقافية في معرض الكتاب الاثنين الماضي، وقالت: إن لديها باعتبارها أنثى إشكالية في فهم قوله تعالى:”وليس الذكر كالأنثى”. أجبتها: المفترض أن تثير هذه الآية إشكالية للذكور وليس الإناث، وأوضحت: ظاهر هذه الآية وفق قواعد اللغة العربية تفضيل الأنثى على الذكر؛ لأن الاسم الذي يتعرض لضربة سيف (ليس النافية) يتحول إلى مفضول، أما الاسم الذي يأتي بعد رافعة “كاف التشبيه” يفوز بشرف الفاضل. وهذا ما جرت عليه العادة في لغة العرب، حين يقولون: ليس الثرى كالثريا، فالمشبه به الواقع بعد كاف التشبيه هو الفاضل وليس العكس. ولم يتسع الوقت لأؤكد لها أن هذه القاعدة مطردة في لغتنا عندما يكون الاسم الواقع بعد ليس معرفة، والاسم الذي بعد الكاف معرفة أيضاً، فليس المشبه كالمشبه به، ولا تختل القاعدة إلا إذا جاء الاسم بعد كاف التشبيه نكرة، فلا فضل لنكرة على معرفة، وفي هذه الحالة يجوز أن يكون الفاضل هو الاسم الواقع بعد ليس كقوله تعالى:”لستنّ كأحد من النساء”. وبعد عودتي إلى البيت بحثت في كتب التفسير عما يؤكد قناعتي اللغوية في تفسير الآية فوجدت الإمام الشوكاني يشرح الآية باستفاضة وافية؛ إذ يرى أن قوله: “وليس الذكر كالأنثى” خطاب من الله لأم مريم يقول لها فيه وليس الذكر الذي طلبتِ كالأنثى التي وضعتِ، فإن غاية ما أرادت من كونه ذكراً أن يكون نذراً خادماً للكنيسة، وأمر هذه الأنثى عظيم وشأنها فخيم. وهذه الجملة اعتراضية مبينة لما في الجملة الأولى من تعظيم الموضوع ورفع شأنه وعلو منزلته، واللام في الذكر والأنثى للعهد، هذا على قراءة الجمهور، ويعتبر الشوكاني الرأي الآخر في تفسير الآية بأفضلية الذكر رأياً مخالفاً لقراءة الجمهور وسياق الآيات. ويشرح الإمام الرازي سر تفضيل الأنثى على الذكر في هذا السياق بناء على القراءة التي تفيد أن الكلام في الآية لأم مريم بقوله: إن المقصود من هذا الكلام ترجيح هذه الأنثى على الذكر، كأنها قالت: الذكر مطلوبي وهذه الأنثى موهوبة الله تعالى، وليس الذكر الذي يكون مطلوبي كالأنثى التي هي موهوبة لله، وهذا الكلام يدل على أن تلك المرأة كانت مستغرقة في معرفة جلال الله، عالمة بأن ما يفعله الرب بالعبد خير مما يريده العبد لنفسه”. ولا يعني ذلك أن الآية تطلق التفضيل بصورة عامة للأنثى على الذكر؛ فالتفضيل هنا لأنثى مخصوصة هي مريم عليه السلام، حيث أكدت الآية أن الأنثى - مريم عليها السلام - أفضل بكثير من الذكر الخادم للمعبد الذي نذرت به أم مريم، وتفاجأت عندما جاء المولود أنثى؛ لأن بني إسرائيل كانوا يحرمون إقامة المرأة في المعبد بسبب فترات الحيض،”إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً فتقبل مني إنك أنت السميع العليم فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم”، فالتفضيل هنا خاص بمريم. ثقافتنا الاجتماعية هي التي تجعلنا نسارع إلى تفسير الآية بكونها تعني تفضيل للذكر على الأنثى، أما السياق اللغوي للآية فلا علاقة له بما فهمه العقل البدوي الاجتماعي من النص، وفقاً لثقافة احتقار الأنوثة الموروثة لا وفق قواعد اللغة وأصول التفسير. وإن عجبي لكبير من بعض المفكرين الإسلاميين الذين يحاولون تفسير الآية بطرق متكلفة للهروب من المعنى الموهوم لتفضيل الذكر على الأنثى، ومن هؤلاء المفكر الإسلامي خالص جلبي الذي بذل جهداً مضنياً ليثبت أن سياق الآية للمغايرة وليس للمفاضلة، ويذهب راشد الغنوشي إلى ترجيح القراءة المخالفة لقراءة الجمهور ليؤكد أن الكلام هنا كلام أم مريم وليس كلام الله، ولا مبرر لمثل هذا التكلف إلا تأثرهم بالتفسير السطحي للآية، ولو توقفوا لقراءة الآية وفق قواعد اللغة لاكتشفوا أن جهودهم ذهبت هباء منثوراً؛ إذ لا داعي لها البتة.