بعيداً عن وجع السياسة قررت أن أكتب، أو بالأصح أن أهرب إلى القرية، إلى زمن طفولتي، إلى قلب جدتي الطيب، إلى شلال وادي بناء، ضبحت من الدش والتلفزيون والنت والسياسة. جلست اثنتي عشرة سنة في صنعاء، واشتقت للبلاد، ولما نزلت وادي بناء ما عرفت السدة مع أني ولدت فيها، صارت مزدحمة تقل علبة كبريت، المحلات التجارية تحاصرها من كل مكان، المجاري تصب في سيل وادي بناء، الزفلت خلا البيوت مثل الكلمات المتقاطعة، الشوارع اللي كنت أمشيها مسافة صرت أطويها بخطوتين، حارتنا تغيرت، الوجوه غير الوجوه، والبيوت غير البيوت، حتى بيتنا اللي كنت أشوفه زمان قلعة كبيرة شامخة دخلته اليوم كأني عملاق دخل قرية أقزام، كنت أمشي أحس أن الأرضية من تحتي تهتز والجدران ترتعد، والغرفة اللي كنت أشوفها زمان أوسع من الملعب اليوم زي المدج. عدت بذاكرتي إلى زمن طفولتي، طفولة جميلة بين المدرسة والمسجد والشارع والملعب وسيل وادي بناء والجبال والخضرة والشلالات، القرية، وبقرة جدتي، والشفوت، والجهيش، والبلسن والشعير وعصيد الذرة الحمراء. أكثر ما كان يميز تلك الطفولة أن وقتنا لم يكن محصوراً في شيء معين أهم التزام فيهما هو المدرسة والجامع وعدم التأخر عن المنزل بعد صلاة المغرب، ولم نكن نعرف التلفزيون إلا ساعة أو ساعتين بعد المغرب سنان وعدنان ولينا والأستاذ ببيرو والغراب الذهبي وكل العيال اللي يشوفوك في الشارع يسألوك “قد بشار لقي أمه؟!”. قررت اليوم أن أبحث عن الشيء الذي لم يتغير، الشيء الذي مازال كما هو من أيام طفولتي، إنها القرية عند جدتي، الله ما أحلى القرية وخصوصاً في النهار، الساقية والبقرة كل ما حولك أخضر هواء نقي ولقمة ولبن وعنصيت وخضرة وأصوات الجولب والعقاب، وأرانب برية تتقافز في الليل وتتسمر مع أي بقعة ضوء تتسلط عليها. الله كم أحب جدتي الوحيدة اللي كلما شفتها أحس أني لسه طفل صغير وأتدلل عليها يا جدة أشتي لبى، عرفت جميع أصناف الجبن الهولندي وغيره ما شفت أطعم ولا ألذ من اللبى اللي كانت تقسمه جدتي لما تولد البقرة، وذقت جميع أنواع اللبن مافيش زي لبن البقرة حق جدتي وخصوصاً لما يفتوا عليه مع البسباس الأخضر. القرية لم تتغير نفس الساقية التي أمشي منها إلى بيت جدتي نفس المكان الذي تجلس فيه جدتي تطعم البقرة، أتذكر لما كنت طفلاً صغيراً كنت أوصل أجلس جنب جدتي وهي تغرز البقرة وتجابرها “هه اكلي جعلش العافية.. عيني هاه.. تعالي هكذا..” وكنت أحس أن فيه لغة خاصة للتخاطب مع البقر بس ما أحد إلا اللي معاهم بقر، يا جدة قد ولدت البقرة؟ يا جدة كم معك بقر؟ وكلما شفت في عيون البقرة: ليش عيونها مدمعات.. ليش بتبكي؟ سبحان الله القرية كما هي باستنثاء بعض الحاجات مثلاً، زمان كان الفلاح يصيح بأعلى صوته من الحقل إلى البيت علشان يلحقوا له لبن، أما اليوم فصاروا يتصلون اتصالاً. اذكروا الله وعطروا قلوبكم بالصلاة على النبي.. [email protected] رابط المقال على الفيس بوك