الحديث عن تعز لابد أن يعود بنا إلى جذور نشأتها.. وهذه الجذور تبدأ من مدينة (الجند)؛ فعند ظهور الإسلام كان اليمن عبارة عن ستة مخاليف كبيرة وأحدها مخلاف الجند الذي كانت تعز قديماً جزءاً منه. وقد مثلت الجند حاضرة المخلاف الذي عرف باسمها، وسطع نجمها واسمها في التاريخ مع بزوغ شمس الإسلام، حينما دوت تكبيرة سيدنا معاذ بن جبل في السنة التاسعة للهجرة من هذه المدينة (الجند)، واتخذ سيدنا معاذ - صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم - منها مقراً لدعوته ونشرها، بعد أن وصل إليها قادماً من صنعاء، وأقام في حمى بني الأسود المسلمين. ومع تقلبات الأوضاع السياسية التي كانت سائدة، أصبحت الجند إحدى ضواحي شمال شرق المدينة، تعز حالياً.. وأصبحت تعز هي إحدى أكبر وأهم محافظات الجمهورية في عصرنا الحالي، وخطت هذه المدينة خطوات متسارعة في توسعها وتطورها وكثافة سكانها الذي كان في مطلع الخمسينيات يصل إلى سبعة آلاف نسمة تقريباً، ووصل الآن إلى ما يزيد على نصف مليون نسمة. وعودة إلى بدء، فإن أحداً من المؤرخين لم يشر البتة إلى ذكر تعز، عندما كانت مدينة الجند هي حاضرة المنطقة..! بل إن التاريخ وطيلة المائة السنة التالية لم يأت بهذا الاسم.. وقصد بذلك قبل قيام الدولة الصليحية (439 - 532ه) (1045 - 1138م) عندما بادر السلطان عبدالله بن محمد الصليحي - شقيق الملك علي المؤسس - ببناء قلعة تعز في منطقة استراتيجية بين حصني صبر والتعكر.. أقر ذلك المكرم أحمد بن علي الصليحي عند توليه، وولى فيما بعد أخاه أبا الفتوح بين الوليد الحميري حصن تعز؛ باعتباره موقعاً شديد الأهمية، وقد رافق بدايات الإنشاء عملية استيطان وتجمع لذوي المصالح في سفوح الحصن من مختلف الجهات، وغدا المكان محطة وسط يربط بين الجند وجبأ وزبيد وعدن وصبر والتعكر. ولكن.. كيف ومن أين جاء اسم تعز..؟ كان من الطبيعي أن يتخذ لأي موقع يستحدث اسماً متعارفاً عليه، ولما كان بناء هذه القلعة (الحصن) كان لابد أن تحمل اسماً متعارفاً عليه..! ولكن أي اسم..؟! بالتأكيد لابد أن يكون منتقياً بعناية، يتناسب ويليق بهذه القلعة التي كانت تمثل رمزاً للدولة الصليحية.. أي «حصن الملوك» كما ذكر جمال الدين المجاور في مؤلفه «صفة بلاد اليمن» تاريخ المستبصر ص156.. فكان أن اختير اسماً جديداً للقلعة، يحمل معنى جميلاً وجذاباً، وهو «تعز». ولأن هذا الاسم له وقع قوي، فقد شاع في تلك الحقبة في عدد من قلاع اليمن مثل: ظفار وعنس (الشيخ علي الخزرجي في كتابه «العقود اللؤلؤية في تاريخ الدولة الرسولية».. مثلما طغى هذا الاسم المميز على كل الأسماء في هذه المنطقة، وصار اسماً علماً بارزاً غاية في الشاعرية والعذوبة..! وصف ابن المجاور حصن تعز بأنه ذو مكانة وبأبواب وأسوار وثيقة عامرة، وقال إنه يسمى الجبل الأخضر.. وقد أثبت تأثيره وفاعليته وسيطرته على المدينة التي امتدت على سفوحه من مختلف الجهات..!. من هنا اتخذ الملوك من هذا الحصن مقراً لهم، وشيدوا فيه عدة قصور لسكانهم وعائلاتهم عرفت هذه القصور بأسماء مميزة، مثل: دار الإمارة، ودار الأب.. وهكذا تمشياً مع النهضة العمرانية التي شهدتها المدينة خلال الحقبة الرسولية. وبغض النظر عن الأحداث الدراماتيكية التي مرت «بحصن تعز» إلاّ أن الملفت للاهتمام، أن هذا الحصن لعب دوراً بارزاً في نشأة وحياة المدينة الشبه ضائعة الهوية في مجاهل تلك العصور، حتى بداية تولي الرسوليين، حيث كان لكل حي اسمه.. فهذا حصن تعز، وهذا حي عُدينة وتعلوه المغربة أو هزيم، وذاك ثعبات.. غير أن الحصن مثل نواة المنطقة ومحور استقطاب الجميع بأهميته القصوى في الأحداث حتى عام 1955م. وهنا هو التاريخ المفصلي، فمثلما كان للسلطان عبدالله بن محمد الصليحي من سبق في بناء حصن تعز، فقد كان للأيوبيين السبق الحقيقي في بناء المدينة عندما وصل شمس الدولة توران شاه -أخو الناصر صلاح الدين - إلى اليمن سنة 569ه - 1173م، واتخذ من مدينة زبيد مكاناً لملكه، بعد أن قدم من الشام، فكان أن غادر تهامة إلى الجبال مع كوكبة من الأطباء يفتش عن مكان أنقى هواءً وأصح ماءً، ليقيم فيه، فوقع الإجماع على بقعة تعز حالياً، وبادر إلى جعلها موقعاً لكرسي ملكه وأهله، كما جاء في «تاريخ اليمن» للكاتب نجم الدين عمارة اليمني.. وهذا اعتراف للمناخ الصحي لهذه المدينة، وهو ما يجب الأخذ به في الوقت الحاضر ضمن اهتمامات المختصين في الدولة. وعند تولي سيف الإسلام طغطكين الملك، بعد مغادرة أخيه السلطان توران، البلاد في أقل من ثلاثة أعوام، بدأ يركز اهتمامه لبناء المدينة الجديدة، فاستخرج الأنهار وشيد القصور والدور، وزينها بالبساتين الخضراء، بالعديد من أصناف الأشجار والفواكه، التي قيل إنه أرسل بعضها لغروس في مصر «يحيى بن الحسين - ص 236). رابط المقال على الفيس بوك