التجارب التي مرت بها الشعوب العربية في نوعية العلاقة بين الجيوش والسياسة، قد برهنت بأن حكم العسكر لا يوجد المجتمع المدني، فالعلاقة بين الجيوش والسياسة لم تدرك إلا عبر الانقلابات والصراعات وفي هذا ما انتج سياسة المؤسسة العسكرية، وهي نظرة لا ترى بالعمل السياسي أبعد من ماسورة المدفع ومدى الطلقة وإصابة الهدف. وتلك رؤية لم تتجاوز مداركها بوابات المعسكرات وأصول قوانينها ووزارات الدفاع وإدارة خططها خارج غرف العلميات فالجيوش لم تكن تحمي السياسة بل قمعت معنى العمل السياسي الذي يوجد في المؤسسات المدنية، وعملت على صناعة السياسة وذلك ما خلق مفارقة، وصلت إلى حد التقديس، بأن رجل الدولة العسكري هو أيضاً المفكر والقائد السياسي، بينما الحال غير هذا فقيادة الدولة عند الدول التي خرجت فيها السياسة من دائرة الانقلابات ونسخ صورة الحكم من مرحلة إلى أخرى، قد فصلت بين مهام الجيوش في المؤسسات العسكرية ومهامها حماية الوطن والدفاع عن جغرافية الموقع وبين المؤسسات السياسة صاحبة آلية العمل السياسي ومن ترسم خطط برامجه، ومن يضع المسألة أمام الغاية، لأن السياسة لم تعد تولد تصوراتها في عقلية ضابط يفكر بانقلاب عسكري حتى يدخل التاريخ وهو يحمل في يده قنبلة. فالدولة التي تحكم وهي تحت أعقاب البنادق لا تسمع سوى صوت الرصاص، والشعوب التي دائماً ما تجد في مقدمة الصفوف قيادات عسكرية تظل في موعد مع الأزمات والحروب، لأن التركيب النفسي لمثل هؤلاء قادة، لا تتسع مساحات حضورهم إلا لو ظلت المعسكرات في حالات استعداد قتالي لضرب صوت الشعب، إن طالب بحقوق المجتمع المدني. لقد أدرك الغرب أن عصر القيادات العسكرية في العمل السياسي قد ذهب، وما كانت الحرب العالمية الأولى، والثانية إلا من أسباب صنعتها قيادات عسكرية تسيدت على حكم الدولة، فحصدت الشعوب الخراب والدمار. فالعلاقة بين السياسة و السلاح تصل في مجتمعاتنا إلى درجات معقدة ومستويات غامضة من التحالف، فالتصور لا يتجاوز قوة الدولة من قوة ما تملك من سلاح، بينما تسقط من الحسابات مراكز قوة أخرى هي من ركائز بقاء الدولة و استمرار تجددها مثل التنمية والديمقراطية و العمل السياسي المتعددة وتوزيع ثروات البلد بما يخدم كل فئات الشعب. كل هذا لا يدرك لأن الصورة الأهم في ذلك هو السلاح، ولكن السلاح لا يحفظ معادلات السلم كما لا يضبط حسابات الحروب وهو لا يسجل تصاعد حدة الهزات الشعبية التي تتحول من همسات في أركان الشوارع إلى براكين تسحق قوة الجيوش وتقهر جبروت السلاح. في عالم اليوم أصبحت السياسة علماً وفناً وقيادة ولها من مراكز الدراسات و البحوث وقادة الفكر الذين يتعاملون معها من منطلق الوعي والثقافة، فهي عندهم صناعة مصائر أمم وبناء حضارات، وإيجاد شعوب تعرف كيف تميز بين ما هو سياسي و ما هو عسكري. غير أن مجتمعاتنا ما زالت في أزمة الزعيم- القائد - وهذه الحالة هي من ولد عقدة الوصول إلى السلطة عبر الجيش فالطريق من المعسكر إلى القصر الجمهوري أزمات مرت بها شعوب، وبقدر ما تكون المدرعة الوسيلة الأسرع في حسم الصراع حول القصر، فإنها الأضعف في قيادة البلد نحو العدل والكرامة، لأن الديمقراطية صناعة عقل أما أصوات الانفجارات لا تصنع غير أكوام من الرماد وبحيرات من الدم. الجيوش والسياسة هل تظل محنة شعوب الشرق؟ وهل حكم السلطة لا يكون إلا عبر الانقلاب؟ ربما تكون الإجابات أصعب من السؤال، لأن صاحب الرد يرفض حق التساؤل، طالما تم حصر الديمقراطية العسكرية في قاعدة نفذ ثم ناقش، لعبة وضعت مصائر الشعوب في غرفة العمليات. رابط المقال على الفيس بوك