جاء عزل الجيش المصري للرئيس محمد مرسي ليمنح إدارة أوباما فرصة هي الأكثر ندرة في السياسة الخارجية: إنها فرصة ثانية. ووضع الأمور في نصابها سوف يتطلب فهم الجوانب التي أخطأت فيها الولاياتالمتحدة في المرة الأولى. يرى البعض أن الخطأ الجوهري الذي ارتكبه الرئيس أوباما في سياسته تجاه مصر هو سحب الدعم الأمريكي من الرئيس المصري السابق حسني مبارك — الذي شغل منصبه لفترة طويلة — في شباط/فبراير 2011، عندما ملأ آلاف المصريين "ميدان التحرير" للمرة الأولى مطالبين بالتغيير. ووفقاً لوجهة النظر هذه، كان على الولاياتالمتحدة أن تقف إلى جانب مبارك، المعارض الصارم ل جماعة «الإخوان المسلمين»، الذي قاتل جنوده إلى جانب القوات الأمريكية في حرب الخليج والذي ظل محافظاً على سلام مصر مع إسرائيل رغم عزلته في العالم العربي. ومع ذلك، فوجهة النظر هذه خاطئة. لقد كانت صحة مبارك العليلة تعني أن حكمه أوشك على الانتهاء، وهي حقيقة رفض مواجهتها، وبدلاً من ذلك أحاط نفسه بالمتملقين وتصرف كما لو كان فرعوناً عصرياً. وبالنسبة للمصالح الأمريكية فقد أصبح مبارك يشكل عبئاً ثقيلاً، وكان هناك بديل منطقي. ففي مطلع 2011، كان الجيش هو ذلك البديل المنطقي. ورغم خطاب أوباما المحلق بأن نشطاء "ميدان التحرير" هم ورثة مهاتما غاندي و مارتن لوثر كينغ، إلا أن السياسة الأمريكية كانت تقوم من الناحية الفعلية على حماية المصالح الأمريكية في مصر من خلال دعم نقل السلطة من جنرال في سلاح الجو يبلغ من العمر 82 عاماً إلى جنرال يبلغ من العمر 75 عاماً هو قائد "المجلس الأعلى للقوات المسلحة" المشير محمد حسين طنطاوي. لقد كان الجيش المصري، المؤسسة الأكثر شعبية في البلاد، قادراً على أن يسبح عبر العواصف السياسية وأن يجد قبطاناً مدنياً يقود دفة سفينة الدولة إلى بر الأمان — أو هكذا اعتقدنا. وعند النظر إلى ما مضى، نرى أن خطأ الولاياتالمتحدة الأكبر كان الثقة المفرطة التي وضعتها في الجنرالات. فعندما انتقل البيت الأبيض إلى قضية ليبيا وغيرها من المواضيع، ترك من الناحية الفعلية سياسته تجاه مصر تسير بقوة الدفع التلقائي، حيث منح الجنرالات حرية تقدير سرعة ومحتوى "عملية التحول الديمقراطي".لقد كان الجميع يعلمون أن المصلحة الحقيقية للجنرالات هي ابتكار نظام سياسي يحافظ على سلطتهم وثروتهم. لكنهم كانوا "رجالنا" — [أي جنرالات تثق بهم واشنطن]، رجال فهموا التقاطعات بين حتميات الأمن الإقليمي الأمريكية والمصرية — بحفاظهم على معاهدة السلام مع إسرائيل — وزعموا أنهم يُقدرون الحاجة إلى عملية سياسية تحظى بالشعبية ومشاركة الجميع والشرعية. وقد كانت تلك السياسة منطقية. ونظراً لأن أحداً لم يتخيل نطاق عدم الكفاءة السياسية للجنرالات، فإنها كانت تنطوي على أخطاء مأساوية. لقد كانت جماعة «الإخوان المسلمين» لاعبة هامشية في التحولات المثيرة في "ميدان التحرير"، وهي معروفة كحركة أيديولوجية إسلامية سرية تعمل في الخفاء. وخلال 18 شهر فقط، استطاع الرجل المهيمن والقوي محمد حسين طنطاوي الإشراف على عملية سياسية تمكن من خلالها «الإخوان» هندسة طريقة منهجية للسيطرة على النظام السياسي في مصر. وربما سمح طنطاوي بذلك اعتقاداً منه بأنه وجد لاعباً سياسياً داخلياً لتأمين المصالح المؤسسية للجنرالات، لكن سرعان ما انكشفت الحقيقة. فاستيلاء «الإخوان» على السلطة — جزئياً من خلال صناديق الاقتراع، وبوصرة جزئية من خلال وسائل غير دستورية — كان كاملاً إلى حد بعيد إلى درجة أن إحدى الخطوات الأولى التي اتخذها رئيسها المنتخب حديثاً هي الإطاحة بطنطاوي في آب/أغسطس 2012. وفي منطقة تعج بالسياسيين غير الأكفاء، كان طنطاوي مميزاً. وطوال هذه الفترة، رأت الولاياتالمتحدة الجنرالات يرتكبون الخطأ تلو الآخر — بما في ذلك العجز عن صياغة دستور ومباركة قانون الانتخابات الذي صمم لصالح الإسلاميين وأتاح نافذة لممارسة العنف ضد المسيحيين، لكن صناع السياسة لم يفعلوا شيئاً أكثر من توجيه الأسئلة. وعلى الملأ، غالباً ما كانت الولاياتالمتحدة تعزز المبادئ الحقة — التعددية والحرية الدينية والإصلاح الاقتصادي، أما على انفراد فقد كانت واشنطن تذعن للجنرالات على الدوام. وحتى عندما أخذت العملية منحنى مناهضاً للولايات المتحدة في أواخر 2011، مع اعتقال ومحاكمة موظفين أمريكيين من المؤسسات الداعمة للديمقراطية والممولة من قبل الحكومة الأمريكية، التزمت واشنطن الصمت على نحو يبعث على الحرج. وبذلك، تحدد نمط العلاقات الأمريكية مع جماعة «الإخوان» وممثلها في القصر الرئاسي، مرسي. فعلى غرار ما حدث مع الجنرالات، وعدت «الجماعة» بتدابير لحفظ الاستقرار، بما في ذلك السلام الفاتر مع إسرائيل. وكل ما طالبت به هو أن تُترك وشأنها. وفي الوقت الذي علا فيه الشعار الأمريكي الجديد "بناء الوطن من الداخل"، كان العرض من الممثلين الذين انتُخبوا حديثاً من قبل الشعب المصري مغرياً. ربما تكون الإدارة قد تحدثت عن الإصلاح الاقتصادي، لكن المبعوثين الأمريكيين ذهبوا إلى القاهرة يحملون شيكات، كما لو أن المال سيستمر في التدفق بغض النظر عن السياسات الاقتصادية الشعبوية السيئة التي انتهجها «الإخوان». لقد تحدثت الإدارة الأمريكية عن الحقوق المدنية والتسامح، لكنها لم تفعل شيئاً عندما تعرض الصحفيون والنشطاء والمواطنون العاديون للسجن بتهم الإساءة للإسلام أو إهانة الرئيس. ولا يوجد رد أبلغ على التراجع الأمريكي في دعم المجتمع المدني — والذي عكسه خنوع واشنطن في مواجهة محاكمة نشطاء أمريكيين داعمين للديمقراطية — من خروج ملايين المصريين إلى الشوارع في الأيام الأخيرة لاسترداد دولتهم. ولا ينبغي أن يفرح أحد بخلع قائد منتخب من قبل جيش في بلد ما، لكن هذا ليس انقلاباً بالمعنى التقليدي ولا يستحق تعليق المساعدات الأمريكية وفقاً لما ينص عليه القانون الأمريكي. وفي الواقع أن الجيش منع بشكل مؤكد وقوع حمامات دم كانت ستترك جروحاً في مصر على مدار عقود. إن اللافعل وعدم التدخل كان سيرقى إلى مرتبة العمل الإجرامي. لكن مع عودة الجيش إلى الساحة، فسيكون من الأعمال الإجرامية كذلك أن تكرر الإدارة الأمريكية أخطاء الحلقة الماضية من الحكم العسكري، عندما تمت التضحية بكل شيء على مذبح الاستقرار. إن الفارس الأبيض الجديد الجنرال عبد الفتاح السيسي ليس أكثر ديمقراطية من طنطاوي، لكنه ربما يكون أكثر دهاء وحنكة. وتحتاج واشنطن أيضاً أن تكون أكثر حنكة ودهاء. لقد قال أوباما مراراً وتكراراً إن الولاياتالمتحدة ترفض الخيار الزائف بين الديمقراطية أو الاستقرار؛ وهذا أكثر ما ينطبق على الوضع في مصر حالياً. ففي عالم ما بعد مرسي، يجب على واشنطن أن تضع سياسة يكون فيها دعمها لمصر مشروطاً ليس فقط باستمرار اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل لكن أيضاً باستمرار التحرك نحو بناء حكومة ديمقراطية تعددية تنتهج سياسات اقتصادية سليمة. وهذا يعني من الناحية العملية التعاطي بشكل أوسع نطاقاً مع كافة الأطياف السياسية المصرية، وليس فقط مع الحزب الحاكم؛ وتقديم دفاع لفظي قوي عن الأقليات (المسيحيون والبهائيون والشيعة)؛ وإعادة الاستثمار في برامج المجتمع المدني التي تساعد المصريين على ترجمة أنشطتهم في الشوارع إلى منظمة سياسية؛ وقيادة تجمع منضبط ل "أصدقاء مصر" يَعِد بتقديم مساعدات مالية هائلة لكن فقط من أجل اتقاء تأثير التخفيضات المتأخرة في نظام الإعانات المتضخمة. ومع تلطيخ سمعة الولاياتالمتحدة جراء التصور السائد بخنوعها لجماعة «الإخوان»، فستكون المرحلة التالية من العلاقات الأمريكية- المصرية عاصفة. لقد تضاءل نفوذ واشنطن لكنه لا يزال قائماً. إن مصر دولة ذات أهمية؛ فدعونا نتعامل مع الأمر بشكل صائب هذه المرة. كما نشرت صحيفة "واشنطن بوست" الأمريكية اليوم تقرير لمراسلها من القاهرة تحدثت فيه عن استعداداها العسكر للانقلاب على مرسي من أشهر. وقال الكاتب إنه قبل أقل من عام، أطاح الرئيس محمد مرسي أعلى الرتب العسكرية القوية في مصر وثبت كبار ضباط جدد، حيث توقع الكثيرون أن يكونوا موالين لحكمه. وقد تمتع الرئيس الإسلامي بثلاثة أشهر عسل مع قواته المسلحة بتولي جيل جديد من الضباط قيادة العسكر، وبدا -لأول مرة- أنهم يقفون بقوة وراء السلطة المدنية. ولكن العلاقة توترت مع تحدي حكم مرسي المتزايد للمصالح الأساسية للجيش، الذي يعتبر قوة تجارية كبرى في مصر، بالإضافة إلى دورها التقليدي في ضمان أمن واستقرار البلاد. وكشف التقرير أن الخلافات بين الطرفين بدأت بعد مرسوم مرسي في الأول من نوفمبر الماضي، الذي منحه صلاحيات شبه مطلقة في حكم البلاد بالتزامن مع تعثر الاقتصاد المصري. ونقل الكاتب عن مسؤولين عسكريين سابقين إن الصراع بلغ ذروته في يونيو الماضي عندما وقف مرسي إلى جانب دعوة المسؤولين حوله للتدخل المصري ضد إثيوبيا وسوريا، مما يهدد بجر مصر إلى صراعات لا يمكن تحملها.