رغم شغفي بالموسيقى، إلا أني لم أعرف كثيراً موسيقى المصري محمد القصبجي، واليوم أعيش على الصعيد الشخصي، حالة ولع في الحانه. وعدا ما كنت سمعت له من ألحان ذائعة، مثل “قلبي دليلي” للفنانة ليلى مراد، و“إمتى حتعرف إمتى” لإسمهان. وعمله الكبير “رق الحبيب” لأم كلثوم، يكاد يبدو مجهولاً بالنسبة لي. لكني أغوص بدهشة في بعض أعماله التي قدمها لأم كلثوم في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وليس فقط لأسترجع جزءاً من الموسيقى الشرقية، بل أيضاً شعرت أني أتصالح مع صوت أم كلثوم، الذي طالما شعرت ببغض نحوه، نتيجة الملل الذي يبعثه لي. لكن من يستطيع إنكار تلك المساحة الخيالية التي يمتلكها هذا الصوت، ومع الحان القصبجي، نستعيد تلك التلوينات، والزخرفات الشرقية. وبتمعن نستطيع الاقتناع بأنه أكثر فنان استطاع توظيف ذلك الصوت في بناء لحني هائل، لكني أتساءل اليوم في لحظة تعيشها مصر داخل خطاب رجعي، أتساءل عن عصر التنوير الذي نتج عنه ظهور شخصيات كبيرة، أمثال: طه حسين، والقصبجي، وآخرين. لكن ماذا حدث في مصر، ليحدث لها مثل هذا الانحدار؟ في الواقع وأنا أكتب عن القصبجي، وصلتني أخبار مقتل ضابط أمن يمني في باب اليمن، وتساءلت: هل يُعقل أن استمر في الكتابة عن الفن ونحن نمر في ظروف كهذه؟ بالتأكيد نعم، لأن الجمال وحده من يستطيع إنقاذ الإنسان من انحطاطه، وبما أننا نمر في أكثر مراحلنا انحطاطاً، فما نحتاجه هو الفن. وكما يقول الفرنسي بروست بأن الحياة الحقة تتخفى وراء الأدب، وما نحتاجه في اليمن أكثر من قضية الحوار الوطني، لأننا في الواقع مجتمع نفتقد للوعي الكافي الكفيل بإخراجنا من أزماتنا، لكن هل تستطيع الموسيقى إخراجنا من ورطاتنا، كنت في السابق أقول بما يشبه المزحة المتهتكة، إن سبب هزيمة مصر في 1967، هو أغاني أم كلثوم، لمساحتها التنويمية. وتلك واحدة من الترهات التي كنت أقولها، لأن عمل الفن لا يستدعي ردود فعل، بل فيما يصنعه للخيال. تكمن قيمة أعمال القصبجي ليس فقط في ابتكاراتها للموسيقى الشرقية، لأنه بحسب كارل بوبر، أهمية الفن ليس في الابتكار، بل في الأصالة، لأن ليس على الفنان القيام بعمل الفيزيائي، وهي لوثة الثقافة الحداثية، وما قام به القصبجي، كان تحدياً بالنسبة لإمكانيات الموسيقى الشرقية، لكنه أقنعنا بأن ثمة مساحات في ربع الصوت، أو ثلاثة أرباع الصوت، التي تتميز به المقامات الشرقية عن غيرها، بإمكانية بلوغ مساحات خلابة. وما فعله القصبجي، لم يسبق لأحد القيام به، ثم لم يأتِ بعده، ورغم ولادته بنفس عام ولادة سيد درويش، فقد استمر سنوات لتبرز موهبته، على عكس درويش الذي ذاع صيته، وكان القصبجي عازفاً للعود في فرقته، لكنه استوعب ما قام به درويش، ثم بدأت ثورة فنية، لم نقف عندها كثيراً، لأن ما قام به، لم يكن يبحث عن ضجيج. وكما يقول كونديرا، إن الفنانين الكبار، لا يحاولون لفت أنتباهنا لما يقومون به من انعطافات وابتكارات فنية. وهذا ما ينطبق على القصبجي،فدرويش على الصعيد الفني، برع في تقديم الأوبريت، أو المسرحيات الغنائية، لكنه أيضاً حملت أعماله بعض الهموم الشعبية، فغنى عن قضايا الناس، بينما القصبجي، وظف كل إبداعه في الموسيقى فقط، وفي الأغاني بالتحديد، فبنى تراكيبه اللحنية، على صوتين من أهم الأصوات العربية؛ أم كلثوم واسمهان. وعندما سمعت له مؤخراً أغنية “إن كنت أسامح وانسى الأسية” بعد قراءة مقالة لكاتب سوري امتدحها، في البدء شعرت أنها صراخ، لكنها كانت بناءً صوتياً خيالياً، ومرهقاً حتى لصوت عظيم كأم كلثوم. وبدا لي أنه يشبه موزارت وباخ بالنسبة للموسيقى الشرقية. رابط المقال على الفيس بوك