بالخريطة .. المرور يعلن اغلاق شارع هام بصنعاء !    روسيا تحقق مكاسب قدرها 142 مليار دولار من الذهب خلال عامين    سامي غالب يطالب الداخلية والنيابة بعدن بايضاح أسباب اعتقال الكابتن طيار محمد المتوكل    منخفض جوي تبدأ تاتيراته على اليمن الاربعاء المقبل    "البريميرليغ": يونايتد يواصل صحوته ويلحق الهزيمة الرابعة توالياً بليفربول    قافلة من وادي حضرموت تصل إلى الضالع دعماً للمقاتلين وتجسيداً لوحدة الصف الجنوبي    ويستمر العذاب.. الكهرباء سلاحٌ سياسي لتركيع سكان عدن    حزام العاصمة عدن يلقي القبض على عدد من الاشخاص بحوزتهم كمية من المخدرات    الإمارات شعلة العلم في سماء الجنوب .. من بناء المدارس إلى ابتعاث العقول.. بصمات لا تُمحى في مسيرة التعليم الجنوبي    أمين عام الإصلاح يعزي في وفاة المناضل والأكاديمي محمد الظاهري    جهة مجهولة تشتري أوراق أشجار الراك في حضرموت    اليمنيون يستعدون لوداع كبير يليق بالشهيد القائد الغماري    شرطة المرور تدشن أتمتة نظام الحجز للمركبات في العاصمة صنعاء    أبعدوا الألعاب الشعبية عن الأندية!    الكثيري يؤكد دعم الانتقالي لتطوير منظومة النقل البحري ويشيد بجهود هيئة الشؤون البحرية بالمكلا    رئيس تنفيذية انتقالي لحج الحالمي يُعزي الشيخ نائف العكيمي في وفاة والده    مسير راجل ووقفة في سنحان بالذكرى الثانية لطوفان الأقصى    وزارة الإعلام تُكرم الفائزين بمسابقة أجمل صورة للعلم اليمني    اليمن تحقق ذهبيتين في فئة الناشئين بالبطولة العربية للجودو في العراق    صنعاء.. جمعية الصرافين تعمم بإعادة التعامل مع منشأة صرافة    السامعي: عقولنا منفتحة للحوار وأيدينا ممدودة لكل أبناء الوطن    المركزي الإيراني يرفع احتياطيات الذهب لتقوية العملة وتعزيز الاستقلال المالي    الأرصاد ينبه من الأجواء الباردة على المرتفعات ويتوقع هطول أمطار على بعض المحافظات    حين تتزين الثورة بالترف... تموت الفكرة وتُباع القضية    اجتماع موسع للامناء الشرعيين لمناقشة آلية تفعيل وتنفيذ وثيقة تيسير الزواج في البيضاء    عدن.. مصلحة الجمارك توضح حول رفع سعر الدولار الجمركي    700 طالب وطالبة يؤدون اختباراتهم في المعهد العالي لتأهيل المعلمين بذمار وفرعيه    كلاسيكو النصر والاتحاد بصافرة محلية    الترب: يجنب التنبه لمؤامرات الخارج و معالجة الاوضاع الداخلية بحلول تخدم حياة الناس    بعد ان سوتها بالأرض..كم سنة يحتاج الغزيون للتخلص من ركام الحرب؟    أتلتيكو يتخطى أوساسونا.. وبيتس يعود بالتعادل    البايرن يخطف «الكلاسيكر» ويوقف سلسلة دورتموند    إقصاء قيادات حضرمية من "درع الوطن العليمية" يثير غضب الحضارم    دعوة هامة إلى لمّ الشمل الجنوبي: "الوحدة والوعي هما سلاحنا الأقوى"    كونفدرالية بين اليمن والجنوب.. وسعي عربي للقاء بين الانتقالي والحوثيين    إشادة بتمكن عامر بن حبيش في احتواء توتر أمني بمنفذ الوديعة    سياسة التجويع لا تبني عدالة: حين يتحول القاضي من حارسٍ للحق إلى ضحيةٍ للسلطة    اسبيدس توضح حول انفجار سفينة غاز مسال قبالة سواحل اليمن    نقابة الصحفيين تجدد مطالبتها بالإفراج عن زايد والإرياني    ارسنال يتصدر البريميرليج من جديد    الدوري الايطالي: الانتر يجر روما للهزيمة في الأولمبيكو    ساري يضغط بقوة لضم انسيني الى لاتسيو    قراءة تحليلية لنص "العيب المعوَّق للمعرفة" ل"أحمد سيف حاشد"    هيئة الآثار تدعو للتعرف على متاحف اليمن عبر موقعها الإلكتروني    السقاف يزور الشاعر المخضرم عبدالله عبدالكريم للاطمئنان على صحته    حضرموت بحاجة إلى مرجعية دينية بحجم السيد "الحداد"    لو فيها خير ما تركها يهودي    قراءة تحليلية لنص "اثقال العيب .. تمردات وحنين" ل"أحمد سيف حاشد"    المداني خلفا للغماري .. بعضاً مما قاله خصمه اللدود عفاش في الحروب الست    هيئة الكتاب تصدر كتاب "مفهوم الشرق الأوسط الجديد"    إشهار منصة إرث حضرموت كأول منصة رقمية لتوثيق التراث والتاريخ والثقافة    اليمن انموذجا..أين تذهب أموال المانحين؟    ابتكار قرنية شفافة يقدم حلا لأزمة نقص التبرعات العالمية    معهد امريكي: شواء اللحوم يزيد خطر الاصابة بالسرطان    متى يبدأ شهر رمضان 2026/1447؟    أبناء وبنات الشيباني يصدرون بيان ثاني بشأن تجاوزات ومغالطات اخيهم الشيباني    الرمان... الفاكهة الأغنى بالفوائد الصحية عصيره يخفض ضغط الدم... وبذوره لها خصائص مضادة للالتهابات    ما فوائد تناول المغنيسيوم وفيتامين «بي-6» معاً؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سيد مكاوي.. الملك العربي الكفيف في تاريخ الموسيقى والغناء
نشر في 14 أكتوبر يوم 19 - 06 - 2012

لاأذكر وأنا أقرأ في تاريخ العرب القديم والمعاصر، إني قرأت، فيما قرأت، عن ملك أو عن سلطان عربي كفيف، فجميعهم كانت لهم عيون، عينان في الوجه، ومئات العيون من الحرس والمخبرين، لكن أبا العلاء المعري كان كفيفاً وكان طه حسين كفيفاً، والبردوني كان كفيفاً وغيرهم، ذهب الملوك والسلاطين وبقي هؤلاء العباقرة، ملء السمع وملء الوجدان بإسهاماتهم الإبداعية الكبيرة في إعادة تشكيله تشكيلاً راقياً بكل ما لهذا التشكيل الراقي على الوجدان من اثر تنويري على الفكر والعقل والنظرة الجمعية الثاقبة لقضايا المجتمع ومشكلاته و همومه ومعوقات تطوره ودفعه لتجاوزها.
"وسيد مكاوي" آخر ملوك وسلاطين العرب في الموسيقى والغناء ومن بقي إلى اليوم عدد قليل من الأمراء ربما لن ينجح أحدهم في الجلوس على العرش لأن سيد مكاوي امتداد لحقبة فنية ختامية نجت من المؤثرات الصوتية الوافدة والنظريات الموسيقية المهاجرة إلينا من الغرب، كما يحدث اليوم لموسيقانا العربية (الشرقية) من تغريب يفقدها مذاقها الأصيل النابع من ثراء مكونات البيئة الفنية والاجتماعية على الملحن والمطرب والعازف معاً، فأغنية اليوم ولا أقصد هنا الأغنية الهابطة وأغنية الفيديو كليب والأغنية التي خدعونا بأنها الأغنية الشبابية، ولا أقصد الأغاني التي تنسب للأغنية الشعبية دون وجه حق، وكل الأغاني التي تخلق بيوم وليلة لمن يدعون أنهم ملحنون ومطربون وشعراء فكلها ليست أغاني لا الأمس ولا اليوم ولا غداً لأنها ماتت وستموت ولكني أقصد بأغنية اليوم الأغنية الجميلة لملحنين أمراء وشعراء رائعين ومطربين هم أفضل ما لدينا اليوم من مطربين، أغنية اليوم هذه لا يكتب لها الخلود في الوجدان العربي ولا في الذاكرة الجمعية للجمهور، وتذهب كل محاولات عمار الشريعي على سبيل المثال تذهب سدى رغم حرصه الكبير ومعايشته لجيل الملوك والسلاطين لبناء لحنه للأغنية بناء فنياً متماسكاً على جمال الروح الشعبية في الحان جيل الملوك، واستحضاره للجملة اللحنية العذبة والرشيقة والمقروءة كما في ألحانهم لأنهم كانوا يأخذونها كما فعل سيد مكاوي من أفواه الناس البسطاء في الشارع، والمترفين في الأحياء الراقية، كما هو الحال مع محمد عبد الوهاب، يأخذونها من نغمة مناداة الناس بعضهم لبعض، وتبادل التهاني فيما بينهم وعباراتهم المؤثرة في تبادل التعازي، من صوت العربجي وبائع الفجل والعرق سوس والدردورما، من صوت المؤذن في حي شعبي، وترتيل راهب في كنيسة عتيقة، من نبض الخشية والإكبار في صوت مقرئ، وأيضاً في حشرجات مغنية فاشلة في شارع محمد علي، وفي فن شجار (العوالم) في شارع عماد الدين، وصوت رشة الماء من فم المكوجي كل ذلك وأكثر منه، ينبض في صوت محمد عبدالمطلب شعر بديع خيري وبيرم وأحمد رامي وفي الألحان العظيمة لسيد درويش وزكريا والقصبجي والسنباطي المتصوف، وفي ألحان محمد فوزي ومحمود الشريف والطويل والموجي وبليغ وآخر هؤلاء الملوك من مصر سيد مكاوي ومن اليمن في لحان أحمد قاسم وبامدهف ومحمد سعد وسبيت والعطروش والمرشدي واسكندر ثابت وغيرهم.
أغنية اليوم تكاد تفتقد لهذه الروح الشعبية في أشعارها وألحانها وأصوات مطربيها وهي بعد ذلك غارقة في التغريب في بنائها الفني، كالغرق في التوزيع الموسيقي الذي أضر بذلك التلاؤم التلقائي النابع من حفظ العازف للحن بإحساسه الأصيل وإحساسه المرهف بنغمات الوتر، فالمسألة عنده "نوتة" يقرؤها ليعزف، وليست إحساساً بما يعزف، كما أن الآلات الموسيقية الكهربائية والالكترونية المستخدمة اليوم ليس فيها نكهة العزف الأصيل "للتخت الشرقي" الذي فيه العازفون في بوتقة الإحساس المشترك للجملة اللحنية بكل ما فيها من شحنات وجدانية يتذوقها العازف أولاً ويشعر بها وهو يحفظها ثم يعزفها ولذلك لم تكن أم كلثوم تسمح لأعضاء فرقتها الموسيقية باستخدام ( النوته) ففازت أغانيها بالخلود.
وسيد مكاوي آخر ملوك وسلاطين الموسيقى والغناء في العالم العربي كان أستاذه الأول هو زكريا أحمد فأخذ عنه أهمية اختيار النص الغنائي الخالي من التعقيد والألفاظ غير المتداولة، وأخذ عنه أهمية بساطة الجملة اللحنية وثرائها وعمق وأصالة الروح الشعبية الحلوة في البناء اللحني للأغنية، ولا شك أن سيد مكاوي استفاد من مدارس تلحينية أخرى أهمها سيد درويش والقصبجي والسنباطي ومحمد عبدالوهاب لكنه آثر زكريا أحمد، نفي حين كان سيد درويش يؤسس قواعد المسرح المصري الذي أنهار سريعاً وللأغنية الشعبية للفئات الاجتماعية المختلفة في الريف والمدينة،وفي حين كان القصبجي يتمرد على القوالب المألوفة في التلحين وكان السنباطي يكثر من الفلسفة والتصوف في ألحانه ولكن باقتدار وإجادة عبقرية، وكان عبد الوهاب (يتغرب) ليبدو أكثر حداثة ومعاصرة كان سيد مكاوي ينهل من كل الينابيع الموسيقية المتدفقة والعذبة الرقراقة معاً لكنه ظل ينهل أكثر من الينبوع الصافي اللذيذ والمعطر برشات لامعة من الروح الشعبية الأصيلة وخفقات أسلوب أستاذه الإيقاعي المعبر عن الحركة النشيطة للمدينة بميادينها وأسواقها الحديثة المحاطة بأصداء خفة دم وروح الأحياء الشعبية.
وماميزملوك وسلاطين النغم أن الواحد منهم وعلى الرغم من تأثره بأستاذه وارتشافه من ينابيع فنه وعبقريته إلا أن كل واحد منهم كان حريصاً على التفرد ليصبح أستاذاً له بصمة خالدة، وعطاء متميز بملامح فنية خاصة وهذا ما فعله سيد مكاوي، فأصبح التلميذ الكفيف أستاذاً لمن يعقبه في الأجيال التالية ولم يعقبه أحد ليظل إلى اليوم آخر الملوك والسلاطين والتجديد الذي ادخله سيد مكاوي كان تجديداً في توزيع الحانه، وليس تجديداً في الحانه الشرقية الأصيلة، فلم يغرق في (تغريب) النظريات الموسيقية الأكاديمية الجامدة الناخرة في الموهبة الكبيرة والتلقائية النابضة بالسحر والحياة، وهذا ما فعله الموجي وبليغ والطويل، كلهم حافظوا على الموهبة الكبيرة القادرة على ترجمة مشاعر الجماهير، كل الجماهير، فرغم إدخالهم للتوزيع الموسيقي والآلات الغربية والأجهزة الموسيقية الكهربائية، إلا أنهم حافظوا على الحضور المكثف للموهبة الحقيقية في التلحين، ولذلك ظلت ألحانهم زاخرة بالجمل اللحنية ذات الروح الوجدانية المعبرة عن أفراح الناس وآلامهم بصدق وتلقائية، وهي جمل لحنية مقروءة ولذلك يستطيع الإنسان العادي حتى صاحب الصوت المخنوق والخشن أن يترنم بها ويغنيها وهو يمارس حياته اليومية، في حين غرق أصحاب أغنية اليوم في التأليف الموسيقي أكثر من التلحين ليبدو أكثر حداثة، وليس كل ما يأتي من الغرب حداثياً ويصلح للشرق وللعرب، المهم أن يتم توظيفه بقدر، وليس تقليده، بما ينفع الموسيقى والغناء العربي وليس إغراقهما في (التغريب) والتقليد، ومحاولة أن يبدو الإعرابي حضرياً فيخلع عباءته ويلبس البنطلون، ولان سيد مكاوي لم يفعل ذلك، فقد ظل عربياً إلى لحنه الأخير، وليس أعرابياً.
وكل من يرغب في التعرف على المنهج الكامل لسيد مكاوي في التلحين والغناء، فليستمع للعمل الفني العظيم الذي قام بتلحينه من شعر صلاح جاهين، وهو أوبريت (الليلة الكبيرة) الذي صور فيه جاهين مولداً دينياً وشعبياً كبيراً يقيمه أهل مصر سنوياً للشهيد العظيم الإمام الحسين بن علي (رضي الله عنه)، وكان جاهين شاعراً عبقرياً في وصف تفاصيل هذه (الليلة الكبيرة) بمفردات اللهجة المصرية العامية بكل ما فيها من خفة دم وقدرة على التصوير وكان تلحين سيد مكاوي لهذا العمل الضخم الخاص بالعرائس المتحركة، تلحيناً عبقرياً، فلا توجد جملة لحنية غريبة عن روح الشعب المصري، وبعد أن يضحك جاهين في قلب المولد، يأتي سيد مكاوي ليجعلك تفرح وتغني وترقص أمام (الأراجوز) و بائع (الحمص) والمغني الشعبي، وتشرب فنجانك في (القهوة)، ثم تشتري لابنك (الطرطور)، فلا تكاد تعرف أيهما كان عبقرياً، جاهين أم مكاوي، لكنك بعد الانتهاء من الاستماع ستجد أن النشوة لا تزال تملأ قلبك وأنت تغني مقاطع حفظتها من هذا الأوبريت العظيم.
أما صوت سيد مكاوي، فهو منهج متكامل في الغناء، صوته يختزن فرحة وحباً وشقاوة وقوة ورقة وفخامة وحزناً وسعادة، وفي صوته خفة دم أبن البلد ساكن المدينة، ورائحة الطمي، وانسياب ماء نهر النيل على الضفتين، ورضا الإنسان البسيط برزقه، وفرحة العاشق بلقاء المعشوق، وفي صوته تصوير للنهوض السريع للمتعثر، والطموح الكبير لمعانقة الفرحة القادمة داخل قلب وحنايا كل من يحب الحياة في ساعة الشقاء وفي ساعة الفرح، صوت فيه خمرة حلال وطعم البن والعسل والروح المصرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.